النداءات الحركية الجهادية القرآنية والتفسير الميداني.. قاموس المقاومة الميداني.. قاموس المقاومة
سيف الدين عبد الفتاح / موقع عربي 21
إن الرؤية التوحيدية المؤسسة للحرية وفعل المقاومة الرافض لكل ظلم وهوان ويقف في وجه الاغتصاب والعدوان ويحرك كل الطاقات لمواجهة الظلم والطغيان؛ لا تقوم فقط على حالة سلوكية ولكنها مسبوقة برؤية معرفية وطاقة فكرية وحضارية ضمن مقاصد النهوض والعمران.. ومن هنا يمكننا أن نتفهم ما يمكن تسميته بجملة النداءات الحركية في القراءان الكريم، فكان هناك مثلث من تلك النداءات يقوم على اقرأ ثم أعدوا ثم سيروا في الأرض..
يترتب على هذه الثلاثية حركة ونظر “قل سيروا في الأرض فانظروا”، إنها الحقيقة الكبرى التي تتأكد فيها هذه النداءات الحركية في علاقتها ببيانات كلية. وتلك الأفعال الحضارية تشير إلى أوامر قرآنية تشير بشكل مباشر إلى ضرورة التوجه للفعل الناجز الواجب والعمل الفعال اللازم لتحقيق مقتضيات هذا النداء القرآني قدرة وفاعلية؛ إعدادا واستمدادا؛ جهدا واجتهادا وجهادا. وقد لفتنا إلى تلك الفكرة أستاذنا “الدكتور حامد ربيع” رحمة الله عليه.
حتى يشرع الإنسان في حركة النهوض والعمران كان عليه أن ينتقل من معاني البيان إلى فعل العمران، فيتحرك من بيانات أساسية وتأسيسية إلى نداءات حركية، إنها فاعلية الإنسان في مسيرة العمران لمواجهة كل ظلم أو طغيان. مفهوم النداء الحركي ينصرف إلى مجموعة من الوثائق والنصوص المركزية نحددها في تنظيرنا للوجود الحضاري على أنها أداة المفكر للحركة
في عالم الناس والمجتمع الجماهيري؛ حيث أضحى الفكر أحد أدوات الحركة، وحيث ظهر القائد الحامل للفكرة والداعي إلى ظهير يدعمه ويسانده لتصير وظيفته تغيير الوضع القائم، والدفع به إلى النموذج الحق من خلال استخدام التأمل الفكري أداة للحركة، إنه أسلوب الدعوة العقائدية بلغة التعامل الحضاري. لقد أضحت أحد أدوات التدافع الحضاري الشامل؛ هي عملية تطعيم الإدراك بمفاهيم الرفض والثورة؛ الاحتجاج والمقاومة، الانتفاضة والمواجهة عناصر جميعها هيأت لمفهوم النداء الحركي.
وهذا يفسر أن كل كلمة في تلك الآثار ذات الطبيعة الحركية لا بد وأن يكون لها مدلولها؛ ليس فقط لأنها تقوم على الشعارات؛ وإنما لأنها وهي تتجه إلى عموم الناس والجماهير لا بد وأن تكتل العواطف المستقبلة لتلك الآثار حول تعامل نفسي معين يقوم على ترشيد الوعي وتسديد السعي، والانطلاق إلى عالم الفعل والتفعيل والفاعلية.
الطبيعة الجماهيرية للنداءات الحركية تفسر من جانب آخر تلك البساطة الظاهرية، فضلا عن عملية الشحن الوجداني والعاطفي والحفز المعنوي والقيمي؛ التي لا بد أن تغلف تلك الآثار الحضارية، أضف إلى ذلك أن التناسق العقدي وفاعلياته الذي في أغلب الأحيان يسيطر على الحامل لهذه الأمانة الحضارية، ليعطي لتلك النداءات تلك الفاعلية من حيث التفاعل، بما يضفي على النص دلالة معينة.
ومن منطلق الخبرة الإسلامية، فإن المحلل لا يستطيع إلا أن يقف متسائلا عن موضع الدعوة القرآنية من مفهوم النداء الحركي. ومما لا شك فيه أن حقيقة الآيات القرآنية في دلالتها الخفية، في أسلوب نزولها، في التطورات المتعاقبة لتعاليمها خلال فترة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إنما تعلن بصراحة ووضوح عن أن تلك الآيات ما هي إلا نداء حركي في أنقى ما تعنيه هذه الكلمة من خصائص، وليس علينا لنفهم هذه الملاحظة إلا أن نعود إلى خصائص التعاليم القرآنية كعملية اتصالية:
*هي دعوة للحركة، بمعنى أنها خطاب يتجه لمن هو صالح لأن تنبت في نفسه بذرة الإيمان لتتقابل مع تلك المفاهيم الجديدة، في سبيل تغيير النظام الاجتماعي القائم والشروع في مقاومة كل عدوان أو طغيان.
* هي دعوة تتجه إلى المجتمع الكلي، إنها خطاب جماعي لا يعرف استثناء ولا يقبل تقييدا، فهو خطاب لا يتجه إلى قوم معين، ولا إلى فئة محددة، ولا إلى طبقة متميزة؛ لأنه خطاب إلى الإنسانية، إلى كل من ينتمي إلى المجتمع الإنساني، وقد حمل بذور الصلاحية للإيمان والارتقاء.
* دعوة كلية، ولكنها تخاطب الرجل العادي، تخاطب رجل الشارع وعموم الناس للفرد وللمجتمع (الشعب)، إنها لغة عقائدية تتجه إلى ذلك القسط من الحد الأدنى للفهم والإدراك، الذي يتميز به كل من ينتمي إلى المجتمع الإنساني، مهما تحدد مستواه من حيث القدرات الذهنية.
* ثم هي تقدم تصورا معينا لحلول المشاكل المختلفة المرتبطة بالوجود الإنساني: اجتماعي، وأخلاقي، وسياسي وحضاري في آن واحد.
رغم ذلك فإن إضفاء النداء الحركي على التعاليم القرآنية لا يمنع أن هذه التعاليم تملك طابعها المستقل ومذاقها الخاص، تحليل هذه الناحية يفرض علينا المتابعة التاريخية لتقييم حقيقة الحركة السياسية الإسلامية خلال فترة حكم الرسول من منطلق الدعوة الدينية، ومتابعة السيرة النبوية؛ رغم ذلك فإن تحليلا موجزا لخصائص التعاليم القرآنية كنداء حركي يفصح بوضوح عن مدى التميز والأصالة التي تملكها تلك الدعوة التي تتخذ شكل النداءات الحركية.
النداءات الحركية هي ليست فقط سياسية، فالدعوة القرآنية تملك جميع عناصر التعامل الفكري: الأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي، والحضاري؛ بل هي تجمع بين الناحيتين الدينية والمدنية في إطار متكامل من المبادئ والمثاليات؛ ثم هي ترتفع إلى مرتبة المبادئ المطلقة العامة الكلية الشاملة، وترفض أن تنزل إلى مستوى الجزئيات والتفاصيل، لا تقدم أحكاما وإنما تصور الرجل الكامل والفاعل، لا تضع قواعد للممارسة وإنما تخطط معالم التنظيم وتلفت لحقائق الفعل الناهض للقيام بمعنى المقاومة ومتطلبات ومقدمات التغيير؛ وهي تخاطب الفرد من منطلق الإيمان العقائدي، الذي يعني ويفترض التسليم بضعف الإنسان في قدراته وملكاته مهما كان قويا واستعداده لتقبل التوجيه الإلهي وسمو ذلك التوجيه مهما كان قاسيا.
جميع هذه العناصر تضفي على طبيعة التعاليم القرآنية كمصدر لنداء حركي؛ ذلك المذاق الذي لا يقتصر على أن يميز بين جوهر تلك الدعوة والحركات السياسية والأيديولوجية التي غمرت القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة الماركسية، بل وتجعل من الدعوة الإسلامية نموذجا متميزا إزاء الأديان الأخرى.
النداء الحركي مقيد من حيث تقييمه وفاعليته بتلك الجماهير المتلقية التي اتجه إليها، لا يعنينا من مضمونه أن يكون تأصيلا أو تجريدا لنظام فكري، ولكن الذي يعنينا هو أن تكون هناك الفكرة الدافعة والدافعة والفاعلة له تلك الفاعلية حيث تكتل القوى وتمكن التماسك. ومن ثم كان استلهام فكرة النداءات الحركية وتطبيقاتها القرآنية إنما يشكل طاقة كبرى في تحقيق المهمة والرسالة العمرانية، ويؤسس لعمليات الوعي والسعي الحضاريين، ويحفز الحركة بكلمات مفتاحية تفتح آفاق النظر والتفكير وتطلق طرائق التدبير ومسالك التسيير وتستلهم كل آفاق النهوض استشرافا لعمليات الثورة والتغيير.
إنها كلمات أشبه بالشعارات التي تحرك مكامن الوجدان والنشاط بلوغا للفعل القادر والتفعيل المؤثر والتأثير الواضح والفاعلية، عمليات بعضها من بعض.. الكلمة أمر ونهي، والكلمة اختيار ومسار، والكلمة فعل وقرار لا تحتمل التأجيل أو الانتظار، حينما تنطلق فإنما تشير إلى عملية الوصل بين العلم النافع والعمل الصالح، فتجعل النداء الحركي مهمة واجبة النفاذ والتنفيذ وتقتضي القيام والنهوض وطرق أبواب كل مساحات وساحات الفعل والفاعلية.
إنها الكلمات الطيبات في مواجهة الكلمات الخبيثات، موصولة بالمنهج وأصول الحركة المترتبة على البيان التوحيدي والبيانات والبينات الأخرى، لتحمل الإنسان فردا أو في جماعة على استشراف طاقات النظر والعمل.. هذه النداءات والكلمات والشعارات غير مقطوعة ولا ممنوعة، غير ممنوعة عن الحركة والنشاط وغير مقطوعة عن وسطها وسياقات الفعل والتفعيل والفاعلية، مثل هذه الكلمات القرآنية (اقرأ، قل سيروا في الأرض وانظروا، وأعدوا لهم ما استطعتم، ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واستقم كما أمرت، وأوفوا بالعهود، وأقيموا الوزن بالقسط، قولوا لله حسنا، وقل اعملوا، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وتعاونوا على البر والتقوى، لتعارفوا، فلا اقتحم العقبة، وشاورهم في الأمر.. الخ)، وغير ذلك من كلمات ومفردات قرآنية مفتاحية تشكل في حقيقة الأمر منظومة من النداءات الحركية. وهي بذلك تعبر مع البيانات التأسيسية من تلك الصبغة التوحيدية؛ عن شعارات للحركة والفعل والتفعيل والفاعلية.
وهنا يكون الحضور الفاعل للمقاومة في الأمة فتتقدم الصفوف لكل نداء قرآني للحركة الناشطة والناجزة والفاعلة؛ إنها تشرع في تنفيذ النداءات الحركية القرآنية على الفور ومن دون تراخٍ؛ بهمّة ومن دون تباطؤ؛ بعزم وإصرار من دون نظر لأي تكلفة أو تضحية. إنها تشكل طليعة الفعل الجهادي؛ متمثلة ذلك النداء القرآني “فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة”، فأما الاقتحام فقد تدربت عليه؛ أما العقبات فإنها تعمل وتسعى في كل مسلك للانتصار عليها مهما عظمت.