تزايدَت في الآونة الأخيرة –على سبيل المثال- أنشطة حركة “VHEMT” والتي تختصر جملة: (حركة الانقراض الطوعي للبشر)[1] الداعية إلى إيقاف ما سمَّوه “جريمة الإنجاب”، وامتدَّ التأثُّر بها إلى شباب بعض الدول العربية تحت عناوين متعددة اشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كحملة “شباب ضد الإنجاب” ومجموعة “مغاربة لا إنجابيون” ومجموعات أخرى تحمل نفس الفكرة، لتجتمع هذه المبادرات في صفحة واحدة سُمِّيت “ضدّ التناسل”[2] على موقع “فيسبوك”، حيث أصبح لها حضور واضح بين متابعيها المؤمنين بالظلم في إنجاب الأطفال في هذا العالم.
يذكر أحد مديري الصفحة “أن إعلان إطلاق الحملة كان اختباراً لوقع الفلسفة اللاّ إنجابيّة على وعي المتلقي العربي. وأن المتابعة الكبيرة لصفحتهم كانت على عكس توقعاتهم”، مرجعًا ذلك إلى “ما يمر به العالم من حروب وأزمات وكوارث طبيعية فجعل اليأس يتسرّب لشباب المنطقة”، واصفاً دعوتهم والجهود التي يبذلونها بـ”الدعوة الأخلاقيّة بعيداً عن أي تصنيفات أخرى”[3].
بدايات فلسفة اللاتناسل
أولى إشارات هذه الدعوة تأتينا من اليونان القديمة في صورة مسرحيات أو أشعار ناقمة على الحياة، وربما ضمن شذرات ألقاها بعض الفلاسفة كأرسطو، وقد كان لبعض الفلاسفة في التاريخ الإسلامي آراء تميل إلى نصرة هذه الفلسفة كالشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري (363 هـ – 449 هـ) بدعواه لعدم الإنجاب، ولعل بيته الشعري الشهير:
هذا ما جناه أبي عليَّ *** وما جنيتُ على أحد
يوضِّح ذلك، ليؤيدها فلاسفة العصور الحديثة كالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، والروائي الروماني إميل سيوران كما في كتابه “مثالب الولادة”، وديفيد بينتار صاحب كتاب “الأفضل أن لا تكون” وآخرون كثيرون.
الإعلام والدعوة لعدم الإنجاب
إنه من المثير حقًّا أن النقاش حول هذه الأفكار كان –إلى مدة ليست ببعيدة- محصوراً بين الأكاديميين في أروقة الجامعات ومراكز البحث، إلا أن الإعلام تكفَّل بإخراج هذه الأفكار من حيز الدوائر الفلسفية والأكاديمية وأدخلها في صميم التأثير في التجمعات الشعبية والجماهيرية، فأنتِجَت في أزمنة متفاوتةٍ العديد من المسلسلات والأفلام والأغاني العالمية، كفيلم “ليون lion” عام 2016، وفيلم “التوت البري” عام 1975 ومسلسل (True Detective) أو (محقق فَذ) والتي تدور حول هذه القضية وتؤيدها وتدعو لها.
إن الفكرة الأهم التي سعى المسلسل آنف الذكر لإثباتها وتبنّاها في كل حلقاته ضرورة “إيقاف الإنجاب” ضمن إطار دراميٍّ مشوِّق، فيكشف توالي الأحداث في المسلسل تناقض شخصيتي “رستن” وزميله في التحقيق “هارت”، فتصرفات “رستن” متطرفة في نظر المجتمع، على خلاف “هارت” الذي يقف على الناحية الأخرى تماماً، وبعد التعمُّق في المتابعة نجد أن المحرك الحقيقي الذي لتشاؤم (روستن) تجاه ذاته والعالم فَقدُه لطفلته الصغيرة في حادث مأساوي أنهى زواجه وغيَّر حياته وفكره، لتتحوَّل رغبته في الانتقام لموت ابنته إلى هوَس فكري في إثبات أنه يجب على البشرية أن تكف عن الإنجاب وأن تسعى إلى الانقراض الطوعي قبل أن تكون النهاية كارثية بالأسلحة النووية أو الكوارث الطبيعية.
حجج فلسفة “اللاإنجاب”
تتنوَّع الحجج التي تسوقها الفلسفة اللاتناسليّة، فثمة أسباب مادية مباشرة، كالحروب مثلاً، فمن الذي يرغب يوماً في أن يستخرَجَ ولده مُهشّما من تحتُ الرّكام كما هو الحال في حلب أو غزّة، أو أن يراه قد أسقطَ العلاج الكيماويّ شعرَه وأنحلَ جسمَه وما زال ينتظرُ موتَه المحتّم، أو أن يراه متشوِّه الجثة في انفجارٍ لا يُعرَف مدبّرُه؟[4].
ومن الحجج أيضا الفقر وعدم كفاية الموارد الطبيعية، فالاستمرار في الإنجاب سيسبب ازدحامًا سكانيًّا هائلًا، وبحسب التقديرات إذا استمر ارتفاع في المواليد في قارة إفريقيا على ذات الوتيرة الحالية فإن عدد سكانها سيقترب من ملياري إنسان تقريباً في عام 2050م، إلا أن القارّة السمراء لن تنتج من الطعام في عام 2025 ما يزيد عن حاجة 25% من عدد سكانها[5].
ومن الحجج أن “اللاإنجاب” أفضل للبيئة، فتقليل عدد البشر يخفف من انبعاثات سياراتهم وآلاتهم واحتياجاتهم التي تؤثر في الغلاف الجوي، كما يحتجُّ ديفيد بينتار -رئيس قسم الفلسفة بجامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا- بأن “الإنجاب في ذاته قرار لا واعٍ وأنه نتيجة تابعة لممارسة الجنس، ولذا فإنه من العبَثِ الإتيان بأفراد جدد لهذا الوجود، وإن أخذ بعض الأشخاص هذا القرار بشكل واعٍ، فإنهم يفعلون ذلك لأسباب ليس من ضمنها مصلحة الطفل نفسه، وأن إنجابه سيكون شيئًا جيدًا بالنسبة إليه لا بالنسبة للطفل نفسه”[6]، وعليه فإنه يرى أن الإنجاب منحصر في مصلحة أبويه لا مصلحته هو، وعلى ذلك فإن الندم على عدم الإنجاب ليس ندماً على عدم تحقق مصلحة الابن بل لعدم تحقق مصلحة الأبوين.
مغالطات وتوهمات
إن الاستنادات التي يقدمها دعاة “الانقراض الطوعي للبشرية” ليست حقائق مطلقة، بل هي عوارض نسبية ناتجة عن أمور أخرى، فلا الفقر أو الحروب أو الكوارث الطبيعية ذات وجود موضوعي مطلق، ولا هي في حال وجودها مستمرة بذاتها، فالحروب تقوم على التنافس وتهدف إلى السيطرة والسلطة والتحكم بالموارد المالية والثروات الطبيعية وتعمل في سبيل ذلك على إخضاع الأطراف الأخرى بشتى الوسائل.
وكذلك الفقر والأمراض، فهي تابعة لأسباب تتقدم عليها، ومن ثمَّ، فإن الأجدر –برأيي- البحث عن حلول لإصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية إيقاف السيطرة على ثروات الآخرين والتعاون معهم لإنشاء عالم خالٍ من الطغيان قوي بالمرحمة التي تسود أركانه، إذ إن الدعوة لإيقاف الإنجاب لن تحل هذه المشكلات البتة.
مغالطة “اللامعنى في الوجود”
لقد بات من القطعيّ أن الفلسفة العدمية تنظرُ إلى الحياة بتشاؤم مفرط وتُلْبِس تأويلاتها السوداوية كل أمر ذي قيمة جوهرية، فليس من الغريب أن نرى العدميين يفكرون في قضية التناسل والإنجاب على نحو تشاؤميٍّ مفرِط، فـ”الحياة بلا معنى” خاصةً وأن الدعاوى التي تُساق لتسويغ الدعوة إلى إيقاف الإنجاب ذات وجاهة عاطفية محرجة!
فلنفترض أن الإنسان تخلَّص من كل الآلام، فإن ألم التفكير في الوجود وتناقضاته يملأ حياة الناس، وهذه دعاية لا بأس بها يشهرها دعاة “اللاتناسل” في الترويج لرؤاهم، فالبحث عن معنى الوجود وحيثياته وغاياته بحد ذاته يولِّد لديهم القهر والعذاب، وليست أحوال الناس ولا الحروب أشدَّ ما يقض مضجعهم، بل محض الوجود وإن كانوا في جنة النعيم.
حسنٌ، فلنفرض أن الحياة وهمٌ لا معنىً لها، ولنسأل: أهذا الذي تدَّعون حقيقة لا تقبل الجدل أم أنها مشاعر مكبوتة يتم التنفيس عنها بتخليطات نثرية وشعرية؟
إن لم تكن مقولتهم هذه –الأساسية في دعوتهم- حقيقةً، فإن الإصرار عليها أحد أكبر الأخطاء التي يتصف به دعاة “اللاتناسل”، وذلك –بطبيعة الحال- تعامل سمِج مع حقيقة المعنى في قضية الوجود الإنساني باعتبارها أمراً ثنويًّا زائفاً لا يستحق إلا المحو كما يمحى الخطأ الإملائي عن بياض الصفحة.
إنهم بذلك يصادرون حقّ من يبحث عن معنى الحياة في الوجود، بل لعلهم إن نجحت دعواهم فإنهم سيجبرون أولئك الذين وجدوا المعنى على أن لا يتكاثروا ويوصلوا ما تعلموه لأولادهم.
مغالطة “ممانعة الانتحار” و”الدعوة الاختيارية للانقراض”
يكرر دعاة “اللاتناسل” أنهم لا يحبذون الانتحار ولا يدعون إليه، وأن جل ما يهمهم إيقاف التكاثر لينقرض الجنس البشري تدريجيًّا.
أليست هذه دعوة للانتحار المقلوب، أو قل أليس هذا انتحارًا بطيئاً!؟
وبطبيعة الحال فإن الاعتراض على هذه المغالطة من قِبَلِ مناهضٍ للتناسل ستثير تشاؤمه، لأنه سيعد الكلام ههنا تقوُّلاً على ما يظن أنها قناعته، ذلك أن اللاتناسليين يطالبون بعدم التكاثر فحسب، وفي سبيل ذلك يسيلون أحبار الطابعات ويُعمِلون عقول المفكرين والمخرجين والمصورين لإنتاج الأفلام والمسلسلات التي تدعم فكرتهم، لتغيير قناعة الناس سلميًّا وذاتيًّا.
حسنٌ، إن هذا كذب لا يمكن الاعتماد عليه.
فلو أن اتحادًا من جماعات “اللاتناسل” استطاع تكوين حكومات في عدة بلدان، وسَلَّمت لهم تلك البلاد بعدم الإنجاب، إلا أن ثلَّة هنا وهناك من النساء والرجال رفضوا ذلك، فماذا سيقول لهم “اللاتناسليون” حينها؟
بطبيعة الحال إنهم أمام خيارين: استخدام القسر والعنف لتنفيذ فلسفتهم، فتصبح دعوتهم إيديولوجيا كريهة تنتهج الوحشية لتستمر، أو السماح للناس بالإنجاب وذلك أيضًا يثبت أن واقع فلسفتهم لا يتوافق مع عموم البشر.
الوهم الأكبر: “لا داعي لاستمرار الحياة”
إنّ الاستمرار في الوجود عبر التكاثر أمرٌ أكثر تعقيداً من الحجج التي يسوقها المتشائمون أو تلك التي يقدمها المدافعون عن فطرة الاستمرار؛ إذ إن دوامَ الحياة قضيّة ذات أبعاد مختلفة لا يمكن اختزالها بالتشاؤم أو التفاؤل، ففي هذا الكوكب عشرات من الأيديولوجيات والدعوات الفكرية التي تمتلك كلٌّ منها مئات الملايين من المؤمنين بها، والذين يسعون لأن يجسِّدوا دعواهم على الوجه الأتم والمثال الأكمل، فكما أن اللا تناسليين يظهرون نموذجهم المثالي بالتوقف عن الإنجاب، فإن العلماء يرون في استمرار الحياة استمرارا للعلم، وكذلك يرى الطيبون في الإنجاب استمراراً للتعامل الحسن مع الناس، وعلى مثل ذلك يمكن التشقيق بمئات الأمثلة، وبالمثل فإن الأشرار يرون في استمرار الحياة استمراراً للقوة والسيطرة… إلخ بحسب المواقع التي يشغلونها
“العدم خير من الوجود”
يقدم لنا اللاتناسليون هذا الكلام باعتباره حقيقة مطلقة، على أيِّ حال، كيف يمكن لنا أن نعرف أن العدم خير من الوجود؟
إن المشكلة في هذه المغالطة أن القائل نفسه لا يعرف العدم، ولا يدركه أصلاً، ولا يمكن لامرئ أن يصفه أو يظهر حقيقته بشكل محسوس، فالعدم هو العدم، اللا وجود.
إن المطلوب مني ومن كل إنسان موجود أن يتمثل أفضل الطموحات وأن يحدد لنفسه أسمى الأخلاق والتعاملات الإنسانية وأن يعيش عليها ولها، وحينها سيتحقق له ولكل إنسان أن (الوجود خير من العدم) فعند ذلك يتحقق المعنى مقابل تلاشي اللامعنى.
الهوامش:
[1] ينبغي التنبه إلى أن الفلسفة اللاإنجابية تنقسم إلى قسمين رئيسين، أولهما: الدعوة إلى الاكتفاء بإنجاب طفل واحد لدواع أمنية واقتصادية وإحصائية، وثانيهما: الدعوة إلى التوقف عن الإنجاب مطلقاً، وهذه الأخيرة التي يهدف المقال التوقف عندها.
[2] https://www.facebook.com/AntinatalismInArabic
يذكر أن محمود ماهر عبد الهادي مدير لهذه الصفحة ولغيرها من الفعاليات التي تدعو إلى التوقف عن الإنجاب، وله لقاءات عديدة على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة يدعو فيها لدعم حملة (ضد التناسل)
[3] ينظر المقال المنشور على شبكة رصيف 22، بعنوان “ضد التناسل”حملة عربية تهدف لانقراض البشرية، على الرابط الآتي: https://raseef22.com/life/2017/08/22/%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%84-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84/
[4] ينظر مقال: “عن الإتيان بطفل إلى العالم”، د. همام يحيى، على مدونات الجزيرة عبر الرابط الآتي:
http://blogs.aljazeera.net/blogs/2016/10/24/%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%B7%D9%81%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
[5] ينظر مقال عمار منلا حسن، على موقع حبر، بعنوان هل تجد الفلسفة اللاإنجابية فرصة في مجتمعاتنا، على الرابط الآتي: https://www.7iber.com/society/about-antinatalism/
وفيه ذكر الكثير من احتجاجات اللا تناسليين
[6] نقلاً عن مقال الفلسفة اللاإنجابية، لماذا لم يعد العالم بحاجة إلى مزيد من الأولاد، عبد الرحمن أبو الفتوح، منشور على موقع ساسة بوست
المصدر: موقع السبيل