ثقافيةشؤون اقليميةمقالات

غزة: صكوك الغفران وصكوك الإجرام

فيصل درّاج

عرفت أوروبا في العصور الوسطى مراجع دينية عليا تبيع صكوك الغفران، تمحو رذائل الشاري، وتعيده نقيًا بلا خطيئة. تنكر ما يؤكده الواقع، وتخترع له واقعًا جديدًا، منقطعًا عن الواقع الفعلي، يوحد بين المنفعة والرذيلة.
أفاد قادة الصهاينة، منذ اختراع دولة إسرائيل، من دروس المراجع الدينية القروسطية، فاشتروا ما هو بعيد عن الحق، وسوّغوا اغتصاب فلسطين، حوّلوا الحق إلى سلعة يباركها أصحاب النفوذ، وغدت مجزرة دير ياسين فعلًا فاضلًا. صار الوجود الفلسطيني واقعًا خاطئًا صححته البنادق الصهيونية وبركة الإرادة الأميركية القابلة للبيع والشراء.
جاء في مقالة عالم السياسة الأميركي رضا بهنام بعنوان: “فلسطين أعظم قضية أخلاقية في عصرنا” المنشورة في 4/ 1/ 2024: “ليس الرئيس جو بايدن سوى واحد فقط من عديد الرؤساء الأميركيين الذين احتضنوا إسرائيل بلا خجل ووقاحة”. تابع ما فعله الرئيس هاري ترومان الذي أصدر، على عجل، في 14 مايو/ أيار عام 1948، بيانًا يعترف فيه رسميًا بدولة إسرائيل الجديدة. أما سبب البيان العجول، الذي أملته الرغبة الصهيونية، فقد شرحه غور فيدال في تقديمه لكتاب المفكر اليهودي النقدي يسرائيل شاحاك: “التاريخ اليهودي، الدين اليهودي”، الصادر عام 1994 حين كتب: “إن جون كيندي أخبرني كيف تخلى الجميع عن هاري ترومان في عام 1948 عندما قرر الترشح للرئاسة، وعندئذٍ أحضر صهيوني أميركي مليوني دولار نقدًا، في حقيبة، إلى قطار حملته الانتخابية المسرع. كان هذا هو السبب في صدور اعترافنا بإسرائيل بسرعة كبيرة”.
ما لا تقبل به المحاكمة العادلة تشتريه النقود الصهيونية، تسرّع ما يتباطأ، وتعطي ظهرًا قويًا لمن كان ظهره ضعيفًا، وتروّض رئيسًا عريض الهيبة يدعى: رئيس الولايات المتحدة الأميركية، التي تقود “العالم الحر”، وتتعهد بنشر الديمقراطية في العالم!! رئيس من نوع غريب يجمع بين الدستور والانتخاب وبيع صكوك الإجرام للإسرائيليين. انطوى سلوك الفاعل والمفعول به على تجربة في الغش والخديعة. فلو لم ينجح الصهاينة في رشوة “رئيس سابق” لما سارعوا إلى رشوة رئيس جديد، ولو لم يقبل “المسؤولون الكبار” برشوة مستساغة تنصر “شعب الله المختار” لما تعجّل رئيس صفيق الأخلاق بإصدار بيانه الظالم. وواقع الأمر أن هنالك “قرابة” بين اغتصاب فلسطين وإبادة الهنود الحُمر التي أعقبت اكتشاف أميركا التي لم تكتشف، بل ذُبحت، بلغة إدوارد غاليانو المثقف الأرجنتيني النزيه. تقاسم “المكتشفون الأميركان” والصهاينة مفهوم “الروّاد”، محا الطرف الأول تاريخ الهنود بالبارود والأوبئة والصيد، وحاول تقليدهم الصهاينة وكثروا المجازر وتدمير القرى وتغيير الأسماء العربية انتهاء بـ”التهجير القسري” الذي نادى به مؤسس دولة الكيان: ديفيد بن غوريون، الذي ولد في روسيا، ومات في فلسطين. وفي كتاب “لوم الضحايا”، الصادر عن دار الآداب، أظهر إدوارد سعيد الأسباب الاستعمارية التي تقاسمتها إسرائيل والولايات المتحدة.
اقتفى جون بايدن، الذي يفاخر بأنه “صهيوني فخري”، آثار ترومان. وإذا كان هذا الأخير سرّع القطار الرئاسي بمليوني دولارًا نقدًا، فإن الأول، وكما قال رضا بهنام هو “المتلقي الأول لأموال اللوبي الإسرائيلي”. فمنذ عام 1990، تلقى ما قبل خدماته الكثيرة لإسرائيل نحو 4.346.264 دولارًا، جعلته في النهاية صهيونيًا بامتياز يساهم باقتدار في تدمير غزة وقتل الأطفال الفلسطينيين. هكذا تجعل النقود الإسرائيلية من رئيس “دولة ديمقراطية” جزّارًا “بلا خجل وبوقاحة” في لعبة صكوك الغفران، فبرّر، ولا يزال يبرّر ما تقوم به دولة إسرائيل، بدءًا من نهب البيوت، انتهاء بتدمير شروط الحياة في غزة.
ولعل من السذاجة شرح الدعم الأميركي للدولة العبرية برشوة سياسيين بارزين فقط، فهنالك الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط القائمة على ثنائية: الحفاظ على النفط وحفظ أمن إسرائيل، من دون أن يمنع ذلك “صكوك الإجرام” المتواترة التي تستمد استمراريتها من اللوبي الصهيوني الذي مزج دائمًا بين السياسة والتجارة، التي إن أخفقت استدعى وسائل أخرى. فقد جاء في أكثر من دراسة أن الرئيس الأميركي جون كنيدي، الذي لم يعش طويلًا، هو الوحيد بين الرؤساء الأميركان الذي هجس بخطة سلام شاملة، قابلة للتنفيذ، يقبلها اليهود والفلسطينيون معًا. غير أن الإسرائيليين الذين لا يكترثون بالصواب والخطأ، بل بما يحقق مصالحهم أطاحوا بكنيدي وسلامه مُؤْثرين سياسة “صكوك الإجرام” التي تضمن طموحات إسرائيل “بأثمان عربية مناسبة”.
استأنس جون كنيدي بمبدأ حقوق الإنسان، الذي يربط كل إنسان بجنسية ووطن، وتوسّلت إسرائيل قاعدة القتل والجريمة المجزية. طردت الفلسطينيين، ونهبت بيوتهم، واحتلت هضبة الجولان السورية وضمتها إلى أرضها المسروقة، ومدت يدها إلى “حلي النساء في غزة”، إلى أن زهدت بالمال وسرقت حياة آلاف الفلسطينيين. كانت دائمًا محمية بالوصاية الأميركية، فإسرائيل ديمقراطية، والديمقراطية الإسرائيلية يضمنها رؤساء أميركيون ديمقراطيون، بدءًا من هاري ترومان، الذي اشترى الإسرائيليون إرادته بحقيبة من دولارات، وصولًا إلى باراك أوباما “الذي وعد بشرق أوسط يحكمه العدل والمساواة، ونسي ما قال وانتهى إلى تسويق مذكراته”، على اعتبار أن التسويق هو الحكمة الأخيرة العادلة.
ماذا ترى السماء السابعة اليوم في فضاء غزة؟ وإلى ماذا يختصرها “الحليفان الديمقراطيان”؟ إن حدقت السماء في غزة قابلتها الأشلاء وصرخات الأطفال وآهات أمهات ثواكل، أمّا الحليفان الإسرائيلي والأميركي فيريان ما سعيا إليه ويحجبانه بأكاذيب قوية الساعدين مزنرة بالبارود: يقول الكاذب الأصغر: إننا نريد محاربة الإرهاب، محولًا الكلمة الثانية إلى لغز لا حلّ له، ويقول الكاذب الأكبر: نحن لا نتدخل في شؤون أحد، إنما ندعم إسرائيل كي تدافع عن نفسها… كذب طريف مقصوص الجناحين: فالذي يحتاج إلى الدفاع عن نفسه تُطلق عليه النيران، والذي يُطلق النار على غيره تتجدّد أسلحته كلما أراد.
سؤالان طريفان: ما معنى الإرهاب عند شعب الله المختار، وهل يشرك الرب في التعريف، أم أنه يكتفي بوعود أميركية؟ والسؤال الثاني لماذا يعبث الرؤساء الأميركان بصورة بلدهم؟ نقرأ في كتاب جيرترود هيملفارب “الطريق إلى الحداثة”: “لقد نجح الأميركيون في نشر عِلم جديد للسياسة، في خلق الجمهورية الأولى القابلة للتطبيق في العصورة الحديثة”… (الترجمة العربية ص: 12). ربما عملت إسرائيل على “رشوة التعاليم الدينية”، وعملت الولايات المتحدة ممثلة ببعض أجهزتها، على رشْ الملح والفلفل على العقول، أي أموال المخابرات المركزية التي تنشط عضلات الثقافة الحرة الكاذبة.
يتبقى من الحقيقة ما يتبقى: أحجار غزة مضمخة بالدماء… أنينها اليتيم، صوتها الراعد في العالم أجمع وصمودها العظيم والحزين (ينتظر الموت نصف مليون من سكانها بسبب شروط الحياة البائسة التي يعانقها الشتاء، ويزيدها بؤسًا- الصحيفة الإسرائيلية هآرتس، 8/1/2024). لا تعطي غزة صكوك انتصار، ولا تستلم صكوك مؤاساة. تظل صامدة تحدّق في السماء السابعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى