ثقافية

التمكين الحضاري في كتاب الله.. الأنواع والأسباب والنتائج

بقلم : د عطية عدلان

تتشوّف القلوب إلى الإحاطة بموضوعات القرآن المتعلقة بالعمران البشريّ؛ والسبب في ذلك هو الرغبة العارمة في تفعيل دور القرآن في حل مشكلات الإنسانية، وموضوع التمكين الحضاري من الموضوعات التي تتعلق بها قلوب المؤمنين، وتتحرك نحوها للاستخبار والاستبصار؛ لكونهم يوقنون بوعد الله لهم بالتمكين، ويفتقدون في ذات الوقت الصورة المحيطة بهذا الوعد، لذلك سوف نتناول هذا الموضوع تناولًا يجلي الحقائق ويرسم الصورة الكاملة.

 

التمكين الحضاري لا يجامل ولا يحابي

 

ونبدأ بتقرير القرآن لحقيقة واقعية، وهي أنّ الله يعطي التمكين لأمم مسلمة ولأمم كافرة، فمن أمثلة التمكين الذي أعطاه الله تعالى للأمم المسلمة تمكين الله ليوسف وسليمان وذي القرنين ثم للأمة الإسلامية، فيوسف مكن الله له تمكينًا بعد تمكين: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:21)، {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:57).

 

وأخبر الله تعالى أنّه آتى سليمان من كل شيء، وهذا غاية التمكين: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل 16)، وقال عن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف 84). وعن هذه الأمة قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال 26).

 

أمّا ما أعطاه الله تعالى من التمكين للأمم الكافرة فهو كثير؛ قال تعالى مستنكرًا على عاد انحرافهم ومعددا مظاهر التمكين في سورة الشعراء: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 128 – 134) ونفس الطريقة مع ثمود قوم صالح: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (الشعراء: 146 – 149)، وفي سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} (الفجر: 6 – 10).

 

وقال تعالى في آية جامعة من سورة الأنعام: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (الأنعام: 6) ومثلها في الأحقاف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26).

 

الأسباب المختلفة والسنن المتنوعة

 

لا يكتفي القرآن بتقرير الواقع، وإنّما يأتي بتفسيره تفسيرًا محكمًا، تذوب به العقد الفكرية المستعصية؛ فها هو يبين السنن التي يمضي عليها التمكين، فيتنوع بتنوعها، فهناك تمكين يمضي على سنة الإمهال والإملاء: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام 44 – 45)، {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (الأعراف 95).

 

وهناك تمكين آخر يمضي على سنة الامتحان والابتلاء، من ذلك ما أعطاه الله تعالى لسليمان فاجتاز الامتحان: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل 40)، ومن ذلك ما أعطاه الله بني إسرائيل فسقطوا في التبديل فنزع الله منهم وأدال عليهم، قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف 168)، وهناك تمكين يمضي على سنة حسن الجزاء، وهذا هو عين ما أعطاه الله ليوسف: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:57)، فأجر الإحسان جاء منه جزء معجّل في صورة التمكين.

 

أين السبيل إلى التمكين الحضاري؟

 

الإجابة عن هذا السؤال جاءت في سورتي القصص ويوسف، فقد نزلت السورتان ضمن مجموعة من السور التي تهيّئ الأمة الإسلامية للتحول الكبير من الاستضعاف إلى التمكين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] (القصص: 5). وجماع الدروس المستفادة من قصة يوسف تقضي بأنّ طريق التمكين يكون بالاستعلاء على الفتنة، فلقد تعرض يوسف لصنوف المحن وصروف الفتن؛ فاستعلى عليها جميعًا، والفتن التي تعرض لها يوسف عليه السلام متعددة ومتنوعة، فمن فتنة الإبعاد والتغريب إلى فتنة النساء والجنس، ومن فتنة الدعة والسعة إلى فتنة التضييق والسجن، ومن فتنة العبودية والرق إلى فتنة السلطة والتغلب والظفر بالخصوم، وهكذا تقلب في ألوان الفتن، فلم يَبْدُ منه تجاهها إلا الاستعلاء، أمّا قصة موسى في أول سورة القصص ففيها إشارة إلى أنّ تحرك الصندوق صوب القصر كان ذريعة للتمكين؛ وذلك لتتجه الأمة منذ نعومة أظفارها صوب المواجهة.

 

غايات رفيعة وأخرى وضيعة

 

لم يبق إلا سؤال واحد: ما هي الغايات المترتبة على حصول التمكين للمؤمنين؟ والجواب عن هذا السؤال يأتي شافيًا وافيًا وإن كان مجملًا موجزًا، وذلك في سورة الحج: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41)، أمّا الأمم الكافرة فجاءت غاياتها هابطة، يصورها قول الله لهم: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى