ليس من الغريب أن تشهد المجتمعات البشرية صراعا وتنافسا مابين قيم الحداثة والقيم التقليدية، فالبشر لا يغيرون قيمهم وممارساتهم القائمة عليها بشكل اعتباطي وفوري. وإن بدا لنا في بعض الحالات الفردية أن شخصا ما قد غير سلوكياته وأفكاره مابين ليلة وضحاها فمرجع ذلك جهلنا بما كان يجري في ذاته من تفاعلات وحوارات. ففي الواقع، لا يمكن لتغيير قيمي أن يحدث إلا بشكل تدريجي ومن خلال تفاعلات داخلية وبينية معقدة تلعب فيها المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية والدينية أدوارها الخاصة، حتى في الحالات الفردية.
وللتفاعلات الدولية، السلمي منها والحربي، دورها في توجيه وتشكيل هذه العملية أيضا. فعلينا أن لا ننسى في هذا الصدد أن الحداثة بالنسبة للمجتمعات الشرقية والنامية جاءت نتيجة احتكاكات عنيفة مع المجتمعات الغربية، وأنها تبقى إلى حد ما “مستوردة” و “خارجة عن السياق،” بمعنى أنها لم تنبع عضويا من صيرورات ونقاشات ومواجهات فكرية داخلية، على الأقل في المراحل الأولى لتغلغلها في هذه المجتمعات، وأنها تبقى وثيقة الارتباط بشخصيات ومؤسسات وأحداث غربية المنشأ.
وما تزال هذه النشأة الخارجية لقيم الحداثة تستخدم كوسيلة أساسية وفاعلة لمقاومتها من قبل التيارات الأصولية والمتشددة في المجتمعات الشرقية والنامية، بما فيها المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من قرن أو قرنين، بحسب المنطقة الجغرافية قيد الاعتبار، على بداية توغّل هذه القيم فيها، وعلى الرغم من تبني معظم الشرائح المجتمعية الشرقية والنامية لبعضها، وإن بدرجات متفاوتة. إذ تبقى النزعة القبلية متجذرة في النفس البشرية، ويبقى كل وافد إليها من خارجها، شخصا كان أم فكرا، مشبوها.
لكن رفض بعض الشرائح والتيارت السياسية للأفكار والقيم الحداثية ليس ظاهرة حصرية بالمجتمعات ذات الغالبية المسلمة، ولا يشكل إدانة لدين بعينه، بل تكمن المشكلة أساسا في الشرائح الرافضة وفي كيفية تعاملها مع المجتمع من حولها، وكيفية تعامل هذا المجتمع معها، وما يحكم هذه العلاقة التفاعلية من تصورات وآليات ومؤسسات.
وإن كان لمسألة الهوية أثرها في هذه الظاهرة، سنجد عند تحليلنا لها أن للقضايا التنموية والاقتصادية دورها الذي لا يقل أهمية عنها، خاصة في تلك الحالات التي تتخذ فيها ظاهرة رفض الحداثة منحى عنفيا.
من ناحية أخرى، وفي ما يتعلق بمسألة الهوية بالذات، فحتى في تلك المجتمعات التقليدية التي كان للدين فيها الدور الأكبر في تحديد الهوية، تبقى النزعة القبلية هنا أهم من النزعة العقائدية. إذ لا يتعلق بالضرورة انتماء المرء إلى دين أو طائفة بعينها بمدى إيمانه والتزامه بتعاليم فئته، خاصة في حال وجود علاقة إشكالية لها مع الفئات الأخرى نابعة عن طبيعة تعاليمها، أو حجمها الديموغرافي، أو أية ظروف خاصة أخرى.
وقد يكون الرفض في الكثير من الحالات رفضا سلوكيا غير مقصود أو واع، بل قد يتناقض مع المبادئ المعلنة للأفراد والشرائح الرافضة. فالأفكار تتغير بأسرع مما تتغير به التصرفات والعادات والعقليات. وقد تتغير أفكار المرء دون أن تتغير نفسيته أو عقليته، سواء استوعى ذلك أم لا. وهذا ما يفسر لنا ذلك التناقض الصارخ في بعض الأحيان وبعض المجتمعات ما بين سلوكيات وتصرفات أتباع التيارات الحداثية من ليبراليين ويساريين، على مشاربهم المختلفة، وبين الأفكار والمبادئ المؤسسة لتياراتهم. ولا يتوقف الأمر على التصرفات والسلوكيات اليومية والقضايا العائلية بل يتعدى ذلك ليشمل الخيارات السياسية لأتباع هذه التيارات والتي قد يكون لمسألة الهوية والانتماء القبائلي دور أكبر من المبادئ في تحديدها. ولهذه الظاهرة تجلياتها حتى في المجتمعات الغربية، لكن تجلياتها في المجتمعات الشرقية والنامية تبقى أكثر انتشاراً ونفوذاً لأن جذور الحداثة فيها ماتزال أضعف.
تبقى الحداثة إذن بما تجلبه معها من قيم جديدة وتحديات سلوكية وبنيوية مسألة إشكالية حتى بالنسبة لتلك التيارات السياسية والشرائح المجتمعية التي قررت القبول بها، أو على الأقل التعامل معها بشكل أكثر انفتاحاً وأريحية، ولا تقتصر ظاهرة الرفض التي تشهدها المجتمعات المختلفة، الشرقية منها والغربية، على الموقف الآيديولوجي للأفراد أو الجماعات، فهناك أبعاد نفسية واجتماعية وسياسية تجعلها خيارا إشكاليا حتى لمن آمن بها. ولعل العنف الذي تلجأ إليه بعض الجماعات كوسيلة للتعبير عن رفضها لقيم الحداثة يرتبط، بشكل جزئي على الأقل، بذلك التناقض الصارخ مابين أفكار مدعي الحداثة وبين سلوكياتهم وحساباتهم وخيارتهم السياسية على أرض الواقع.
وما بوسع المؤمنين بالحداثة أن يتصدوا لتحديات التحديث في مجتمعاتهم ما لم يجدوا طريقة بناءة للتعامل مع هذه المشكلة أولاً، فيسعوا ليكونوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم وأفكارهم فيعكسوا إيمانهم بالحداثة وقيمها في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية علاوة على خياراتهم وحساباتهم السياسية.