
تمهيد
أول ما يصادفنا في الحقيقة أن القرآن الكريم كثيرا ما تنص آياته على أن أكثر الناس لا يؤمنون أو لا يعقلون أو لا يفقهون، وهو ما يؤكد أن القرآن ينحاز للطبيعة البشرية الخاطئة، ويعمل على علاجها، وعلاجها يكون بالتربية والسلوك القويم والسياسة العادلة، ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام لأبي ذر الغفاري ولنا أيضا (ولا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه)
ليس ذلك فقط، بل إن الله تعالى أمرنا بالتفكر والتأمل، وهو ما يقودنا للنظرة النقدية، والتي بدونها يمسي المؤمن مؤمنا بالوراثة، بالعاطفة دون العقل، أو بالرواية دون الدراية.
وهؤلاء المؤمنون التقليديون دائما ما يخنعون لكل حاكم ظالم مستبد، ولم يكتفوا بذلك ولكنهم وضعوا أو وُضعت لهم أحاديث تنص على طاعة الحاكم حتى لو أخذ المال وضرب الظهر، وأن طاعة الحاكم من طاعة الله، حتى لو وصل الحاكم للحكم بعد إراقة الدماء، أو أن من مات وليس في عنقه بيعة لخليفة دموي يقود المرء لميتة جاهلية.
في هذا المستوى عاش المسلمون طوال عمرهم، وتخلفوا عن كل الدنيا بسبب ذلك السلوك السياسي الشائن، حيث ندرت المعارضة طوال تاريخ المسلمين، بل استحالت، لأنه ميراث دنيوي اصطبغ بتراث ديني بعيد كل البعد عن روح الإسلام والسلوك النبوي، فالإسلام إذن أكثر إشراقا وتسامحا وعدلا وإخلاصا من المسلمين.
لو تأملنا القرآن الكريم والسيرة النبوية، نجده يؤكد على ضرورة وجود معارضة للحاكم لتظهر له العيوب والخطايا، تنصحه وإن لم يستجب تعزله، هذا ما نفهمه من آية الشورى التي وردت في سورة آل عمران|159 : “وشاورهم في الأمر”، وهو أمر إلهي للنبي المعصوم، يأمره بالشورى، ولا يمكن أن تكون الشورى إلا في وجود رأي ورأي آخر، أي وجود معارضة.
والنبي الأكرم واجه معارضين خصوما عتاة من الكافرين والمشركين والمنافقين، ولكنه لم يؤثر عنه أنه واجههم بأسلوب فظ، ليس ذلك فقط، بل كان هناك معارضون مسلمون مؤمنون يحبون الله ورسوله.
ولكن كانت لهم وجهة نظر أخرى، فقبيل معركة بدر، كان بعض المسلمين لا يريدون الحرب ويجادلون في عدم خوضها، قال تعالى في سورة الأنفال |5– 8 “كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين“، أي مؤمنون كارهون للحرب، ويجادلون في عدم خوضها، كأنهم يساقون رغما عنهم للحرب، ويريدون الغنيمة بالسلم دون الحرب، فلا يقبلون شوكة الحرب بما فيها من دماء،. ولم يؤثر عن النبي توبيخهم، أو قال لهم كلمة سوء، أو اتهمهم بالفرار من المعركة المنتظرة، أو حاكمهم، فهي في النهاية معارضة سياسية حتى لو كانت في أثناء خوض الحروب، ولكن عندما جاء العدو بالحرب في بدر انخرط الجميع في القتال.
وقد تكرر الأمر في حوادث أخرى، مثل انسحاب ثلث الجيش قبل معركة أحد، بقيادة عبد الله بن سلول، ولم يعاقب الني أحدا منهم، وهو سلوك نبوي مبهر، ابتعد عنه المسلمون تدريجيا خلال عقدين من الزمان لا غير، ثم اختفت كل معارضة سياسية |دنيوية، أو دينية|روحية، فالنبي لم يجبر أحدا من الناس على بيعته.
السلوك النبوي المعصوم
نستهدف التأمل في السلوك النبوي المحمدي، لما فيه من القدوة والأسوة الحسنة للمسلمين، فقد كان النبي رحمة لكل البشر، كما جاء في سورة الإسراء|107: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، والرحمة هنا أنه رحيم بالضعف البشري، وأن سلوك الأنبياء لابد أن يكون مثاليا، وإلا انتفت القدوة، ولقد قال النبي في حديث صحيح :”كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون”، وهو ما يتفق والروح الدينية للنبي وللدعوة، والقرآن الكريم يخاطب النبي في سورة القلم|4 : “وإنك لعلى خلق عظيم”، والخلق العظيم لا يسب ولا يلعن ولا يضيق بالرأي الآخر المعارض، فمثلا عندما حاصر النبي مدينة الطائف وطال الحصار، طلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف، فقال النبي : “اللهم أهد ثقيفا وإت بهم” وفي صحيح مسلم أنه قال ردا على من طلب منه الدعاء على المشركين : “إني لم أُبعث لعّانا وإنما بُعثت رحمة”، فالرحمة دائما ما تسبق الخطأ، بل وتسبق العدالة، لأن الرحمة بالبشر عنوان الضمير الإنساني، وفي هذا المقام يتسع القول، وتتسع أفق المعرفة الإنسانية بكل صورها.
والرحمة تقودنا للحديث عن السلوك السياسي للرسول محمد عليه السلام، فلم يكن يضيق بالمعارضة السياسية، فضلا عن العسكرية، وخاصة في فترة التمكن بعد إقامة دولة إسلامية في يثرب، ونكتب عن بعض نماذج محمدية في هذا الشأن.
فقد كانت حركة الموأخاة بين المهاجرين القرشيين والأنصار اليثربيين، سلوكا اجتماعيا وسياسيا باهرا، أدت إلى تماسك اجتماعي ديني في العاصمة الجديدة، ولكن القرشيين بعد وفاة النبي منعوا الأنصار من حكم الولايات أو قيادة الجيوش، واكتفى الأنصار بالروح الدينية التي تغلغلت في قلوبهم، فكانوا خير دعاة للدين الجديد.
وعندما نعود للمعارضة السياسية أو العسكرية للنبي، نجد مثلا، في موقعة بدر كماء جاء بالسيرة النبوية لابن هشام وغيرها من كتب التاريخ أن النبي اختار مكانا في ساحة معركة بدر الكبرى.
ولكن الحبّاب بن المنذر الأنصاري اعترض على المكان، وصرّح بالرأي العسكري المعارض، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله..” فتنازل الرسول عن رأيه واستحسن رأي الحبّاب ولم يستنكف أن يأخذ به، وتحقق النصر في بدر.
وهو ما تكرر في موقعة الأحزاب، عندما قاد التحالف الخليجي القديم الحصار ليثرب مدينة الرسول للقضاء على الدعوة من جذورها، فجمع النبي أصحابه ليستشيرهم في كيفية الدفاع عن المدينة وصد الأعداء، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، حيث قال: يا رسول الله: إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فوافق النبي على الخطة، وتعثر موقف التحالف المشرك، ولم يقل أحد لا من الصحابة ولا من الأعداء أن النبي أخذ بسنة غير إسلامية، أو حتى عربية، فالخطط العسكرية والسياسية تخضع لقوانين تتغير حسب تطور البشرية، وهو ما يخضع للرؤى السياسية والاقتصادية.
ولقد كان عبد الله بن أبي بن سلول سيد قبيلة الخزرج، وهو الذي خاض صراعاً مريراً علنياً في قليل من الأحيان وسريا في أحايين كثيرة مع النبي، ولم يتعرض له النبي، حتى عندما انسحب بثلث الجيش في معركة أُحد، فحاقت الهزيمة بالمسلمين، رغم أن النبي كان لا يريد الخروج للمعركة،.
الصحابة أشاروا عليه باللقاء عند جبل أحد، ولما توفي صلى عليه الرسول، فقال له عمر بن الخطاب: لم صليت عليه يا رسول الله؟، قال: لقد خُيرت فاخترت”، وفي موقعة تبوك، لم يجبر الرسول أحدا على الخروج، وقبل اعتذار كل من تخلف، إلا ثلاثة نفر كلهم من الأنصار أهل المدينة، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أميه، اعترفوا بذنبهم ولم يقدموا أي عذر، فتركهم النبي للتوبة التي تقبلها الله منهم، كما جاء حديثهم في القرآن الكريم في سورة التوبة.
أما أخطر وأشهر معارضة سياسية، فكانت من عمر بن الخطاب لمعاهدة أو اتفاقية أو صلح الحديبية، حيث اعترض على بنود الاتفاقية كلها، فعندما بعث أهل مكة إلى النبي بوفد يرأسه سهيل بن عمرو العامري، طلبوا منه أن يرجع في هذه المرة من حيث أتى، على أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام، وقد اشترطوا عليه شروطا قاسية قبلها رسول الله، لاقتضاء المصلحة السياسية، حيث يظل المسلمون عشر سنوات طوال لا يتعرض لهم أحد من أهل الجزيرة، وهو صلح سياسي بح.
تولكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي، وعارضوه في ذلك معارضة شديدة، وجاء عمر بن الخطاب كما جاء قي صحيح البخاري وسنن ابن ماجه، قال فقال عمر : “ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى، قال عمر : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟
قال رسول الله: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قال عمر : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟
قال : بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قال عمر : لا.
قال النبي : فأنك آتيه ومطوف به.
ثم أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فقال : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟
قال: بلى، ثم سأله عمر نفس الأسئلة التي سألها رسول الله، وأجابه أبو بكر بنفس الأجوبة قائلا له : أيها الرجل، إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه.
ولما فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يمتثل لأمره منهم أحد، وبنصيحة من أم المؤمنين السيدة أم سلمه رضوان الله عليها، دخل النبي (ص) خباءه ثم خرج فلم يكلم أحدا منهم بشئ حتى نحر بدنه بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه.
فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا..”.هذا ما حدث في معاهدة الحديبية التي نقضها المشركون فيما بعد.
ولكن المؤكد أن النبي ترك عمر بن الخطاب ومن اتفق معه في الرأي أحرارا، لا لوم ولا عتاب، سواء من الوحي الإلهي أو من النبي البشر.
وعندما نكتب عن مثل هذا السلوك السياسي للنبي، فإننا ندعو من جانب أن السيرة النبوية يمكن القول بأنها أفضل السير الديمقراطية بالمصلح المعاصر، أو بالشورى الملزمة بالمصطلح الإسلامي، وهي الشورى التي لم يطبقها الحكّام عبر العصور، وهو ما نريد أن نتخذ من سلوك النبي والإمام المعصومَين.
المعارضة السياسية في عصر الراشدين
لا نستطرد في الحديث عن فترة خلافة الراشدين، أولا لحساسية البحث أولا، ولطول الحديث عنها ثانيا، وذلك خلال الخلفاء الراشدين الثلاثة.
بعد وفات النبي(ص)، ، بدأت تظهر بوادر البعد عن نهجه السياسي السلمي، فأبو بكر، قال في أول خطبة له بعد بيعته بالخلافة : “إني قد وُلَيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.. إنما أنا مثلكم.. فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”،.
هو كلام حسن، ولكنه لم يُطيق على أرض الواقع، حيث صادر ميراث الزهراء عليها السلام، فلا تقوى معارضة الغمام علي (ع)، ثم حارب من أسموهم المرتدين، وفي الحقيقة كانوا معارضين سياسيين، أكثرهم منعوا الزكاة لأنهم رفضوا بيعته فجاهدهم في حروب دموية بعد اتهامهم بالردة الدينية، وهي كما قلنا كانت معارضة سياسية أكثر من كونها ردة إيمانية.
وتم اغتيال سعد بن عبادة المعارض الأنصاري في السقيفة وظل معارضا حتى عهد عمر بن الخطاب، فاغتيل واتهموا الجن باغتياله، كما جاء ذلك في كتب تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير والبلاذري وغيرهم.
ثم ما حدث من الصراع الطبقي في خلافة الثاني والثالث، فعادت روح القلبية الدنيوية، ثم العنصرية ضد الموالي والعبيد والفقراء …. الخ، وبعد ذلك اشتهرت عبارة(بايع وإلا ضربت عنقك بالسيف)،
السلوك العلوي ضد المعارضين السياسيين
ربما كانت المحاولة الأخيرة في إحياء المعارضة السياسية السلمية، كانت في عهد الإمام علي عليه السلام، فعندما رفض بعض الصحابة بيعته فقال عنهم : “أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل”.
وتركهم دون أي عقاب أو حتى كلمة سوء، كان منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهما، وحتى الذين نكثوا يعته لم يعاقبهم، وتركهم أحرارا مثل طلحة والزبير، واُشتهر عن الإمام أنه لم يكفّر أو ينال من خصومه، وقال عن الخوارج (إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم، فاذكروا عني، ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)، وهو سلوك علوي معصوم، واجه خصومه بالحسنى، ولكن أبناء الزهراء وعلي عليهما ظلوا في المعارضة الإيمانية والسياسية ضد الطغاة من أمويين وعباسيين . الخ، ونالوا جميعا الشهادة، وضربوا المثل الأعلى للإنسانية في صورتها البشرية، وهو سعي الإنسان نحو الكمال، دون أن يخون الوسيلة في أي وقت وتحت كل ضغط.
ولكن بعد عصر الإمام علي وبداية من العصر الأموي، انتهت المعارضة واختفت وتداول الحكام المقولة التي ذكرناها، بايع وإلا ضربت عنقك بالسيف.
ثم ظهرت المعارضة المسلحة، التي تسقط دولة وتقيم دولة، ولذلك رد أبو مسلم الخراساني على من اتهموه بكثرة من قتل لتأسيس ملك العباسيين بقوله : (أتريدون أن تقيموا دولة بلا دماء أو جماجم، ألا ترون أن عليا وبنيه لم يقيموا دولة لأنهم كانوا يتحرون الحق)، وهو قول صحيح بمقاييس السياسة دون مقاييس روح الدين، مع العلم أن كل حكام المسلمين أو أغلبيتهم لم يتحروا الحق أبدا.
والله الهادي ولا يفقدنا الأمل والانتظار للموعود القائم، الذي يعيد الحق ويهزم الباطل ويملأ الأرض عدلا كما مُلئت جورا … نحن في انتظاره … انتظار الأمل ….