أحاول في هذا المقال المختصر .. إعادة قراءة وتحليل بيان المرجع الأعلى دام ظله .. وفهم النقاط التي كان يرمي لها.
ولكن قبل ذلك علينا أن نفهم طبيعة تحرك حماس .. وطبيعة رد الصهاينة .. لأن تحليل البيان بشكل واضح يعتمد على معرفة الصورة الكاملة لما يدور.
فلدينا في هذا التحليل:
- ستة نقاط في الإجابة على سؤال (لماذا هجمت حماس؟).
- ستة نقاط في الإجابة على سؤال ( لماذا رد الصهاينة بهذه الوحشية؟).
- ستة نقاط في الإجابة على سؤال ( ماذا تريد المرجعية في بيانها؟).
أولاً: #لماذا_هجمت_حماس ؟؟
- بسبب إستحالة بقاء الاوضاع في غزة كما هي .. لأن قطاع غزة عبارة عن قفص كبير يموت الناس فيه بصمت منذ 15 سنة بدون أن يعلم أحد .. وكان لا بد (في نظر حماس) من إعادة إحياء القضية مهما كلف الثمن.
وأعجبتني كلمة لشخصية أمريكية عندما سألوه ( لماذا يهاجمون ولا يخافون الموت ؟) فأجاب (لأنهم بالأصل يولدون ميتين)!! حيث لا حياة كريمة ولا مستقبل.
تعتبر غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، وتبلغ نسبة الكثافة فيه 26 ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 55 ألف ساكن تقريبا بالكيلومتر المربع الواحد!!
- محاولة إيقاف مسار التطبيع .. الذي يستمر بالتصاعد وينتقل كالنار من دولة لأخرى .. فماذا سيبقى للقضية ياترى .. إذا تم تطبيع أكبر قوتين في العالم السني تركيا والسعودية ؟
لقد كان يوماً أسوداً على الصهاينة .. وصفعة مهينة تلقوها بكل قوة .. و كانت _ رغم كل ما تلاها من مجازر للأبرياء _ قبلة الحياة لقضية فلسطين إلى سنوات قادمة بدون مبالغة .. وأكبر حجر عثرة في طريق التطبيع .. والأيام ستثبت ذلك.
- ضخ الأمل لدى الشعوب العربية .. التي ما زالت تحاول الدفاع عن قضية فلسطين .. ولا يخفى عليك أن صوت المدافعين بدأ يخفت مؤخراً ويصاب بخيبة أمل بسبب جمود الملف وانسداد الأفق .. وفي السنوات الأخيرة وكاد النسيان يطوي فلسطين.
خصوصاً مع ظهور تنظيمات سلفية إرهابية وجهت الرأي العام لصراع سني شيعي .. مضافاً لوجود أصوات متصهينة بدأت تتصاعد وتنمو بوقاحة وبرعاية شبه خليجية للأسف .. وقد ظهرت الان بقوة .. لتطغى على حقيقة موقف شعوب الخليج الداعم لفلسطين.
- وجود الكثير من الأسرى الفلسطينيين لدى الصهاينة .. وتحرير هؤلاء يبعث بأمل جديد ويضخ دماء جديدة في القضية .. لذا كان تركيز حماس على أسر أكبر عدد من الرهائن في يوم الصفعة.
- إستغلال الضعف والانقسام الداخلي في صفوف الصهاينة والصراع على المكاسب وصراع العلمانيين مع المتدينين .. وهذا ليس مجرد تمثيل .. بل هناك خلاف حقيقي كاد يزلزل الجيش .. وحالة الإرباك الداخلي ظهر أثرها واضحاً جداً في يوم هجمة حماس.
كما أن وجود حكومة متطرفة يديرها بن غفير وأمثاله من الجزارين في حزبي كاخ و شاس .. سيجعل الرأي العام العالمي متردداً في دعم موقف إسرائيل .. وهو ما حصل بالفعل .. ويشكل حالياً عاملاً مساعداً للفلسطينيين.
- استباق وصول ترامب للبيت الأبيض .. لأن كل ما يبدو الآن دعماً لا محدوداً للصهاينة من أمريكا .. يعتبر لا شيء مقارنة بما سيفعله ترامب إذا وصل للسلطة.
وهذا يفسر لنا تصريحات بقية الأطراف في محور المقاومة في العراق ولبنان .. بأنهم سيدخلون المواجهة في حال تدخلت الولايات المتحدة .. وهذا بطبيعة الامر يقود الحرب إلى تسوية سريعة .. بدل الاستفراد بحماس.
الخلاصة : كانت حماس تريد ضربةً قويةً وخاطفةً .. لتحقيق الأهداف أعلاه .. ولم تكن تريد حرباً مستمرة وشاملة.
وربما كانت تعتقد أن حيازة هذا الكم الكبير من الأسرى لديها واتخاذهم دروعاً بشرية .. سيحمي غزة من ردة الفعل الانتقامية .. ويمنحها ورقة للتفاوض حول أسراها.
لكن يبدو أن الصهاينة قرروا التضحية بأسراهم .. وهجموا بوحشية.
ثانياً: لماذا_الرد_الوحشي ؟؟
- بعد حصولها على الضوء الأخضر من أمريكا .. تسعى دويلة الكيان إلى قتل الشعور بالانتصار الذي اجتاح الشعوب العربية والإسلامية .. لأن بقاء هذا الشعور وتجدد الأمل .. خطر جداً على هذه الدويلة.
فالإيغال بالقتل .. وبكل هذا العدد من الضحايا .. سيجعل أي شخص مسلم أو عربي كان متحمساً في البداية .. يعود إلى نفسه منكسراً حزيناً وهو يسأل ( هل كان نصر يوم واحد .. يستحق كل هذا العدد من الضحايا)؟.
- التغطية على الفشل الاستخباراتي والعسكري لدى جيش الاحتلال .. الذي كان يتم تسويقه كأسطورة ( الجيش الذي لا يقهر ) .. فالصهاينة يخافون من سؤال: لماذا لا يتم اجتياح غزة برياً لرد الصاع صاعين؟! ويغطون عليه بهذا التوحش لكي يوحون بأن القصف الجوي لوحده يكفي.
- شغل المقاتلين بعوائلهم وهي تحت القصف .. وإجبارهم على الانسحاب .. لأن كل يوم تستمر فيه المناوشات داخل المستوطنات يشكل خطراً على سمعة الجيش ويغري بقية الجبهات.
4.يبالغ الصهاينة في القصف .. حماية لوضعهم الدبلوماسي .. أي تجنباً للحديث عن الحل الشامل للقضية والإقرار بحل الدولتين .. بمعنى أنهم رفعوا سقف الانتقام ليكون أقصى ما تطالب به الأطراف الدولية والعربية هو مجرد إيقاف القصف .. وليس الحديث عن سواه.
- ردع الضفة الغربية من التحرك .. وإظهار الصهاينة بأنهم جادون في تحويل غزة إلى عبرة.
- بعيداً عن الأسباب أعلاه .. فان هذه الوحشية تعزى بشكل طبيعي لوجود المتطرفين على رأس السلطة ..
مثلاً .. إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي الحالي .. هو متطرف ديني من حزب كاخ العنصري .. ثم موشيه أربيل وزير الداخلية الحالي .. هو الآخر متطرف ديني من حزب شاس العنصري.
ومن الطبيعي أن يستسلم نتنياهو لأي طرف يدعمه للبقاء في السلطة هرباً من المحاكمات _ كما أشرت في مقال سابق _ وهؤلاء اليوم لديهم صوت قوي في الحكومة .. وقد انعكس على شكل مجازر داعشية.
لخلاصة : الصهاينة يعلمون أن الأمر سينتهي بوقف النار والمفاوضات .. لكنهم يحتاجون بعض الوقت للاستمرار بالقتل والتدمير .. لتحقيق الأهداف أعلاه .. قبل أن يستمعوا لصوت المجتمع الدولي.
ثالثاً : ماذا_تريد_المرجعية ؟؟
المعادلة التي ذكرتها أعلاه .. تعرفها المرجعية جيداً .. لذا توجهت إلى العقدة والحل مباشرة .. وطلبت من المجتمع الدولي زيادة الضغط على الصهاينة قبل إكمال انتقامهم.
- ورد في البيان ( ملحقاً بذلك أكبر الأذى بالأهالي الذين لا حول لهم ولا قوة، وكأنّه يريد بذلك الانتقام منهم وتعويض خسارته المدويّة وفشله الكبير في المواجهات الأخيرة ) وهو تفسير صريح لهذه الوحشية .. وأنها مجرد مناورة دموية وتغطية على الفشل .. ومنع أي طرف من الاحتفال بالنصر الفلسطيني.
- ورد في البيان ( ويجري هذا بمرأى ومسمع العالم كله ولا رادع ولا مانع، بل هناك من يساند هذه الأعمال الإجرامية ويبرّرها بذريعة الدفاع عن النفس ) وهذه إشارة إلى وجود ضوء أخضر على مستويين .. الأول المساندة ( ومكتب سماحته يقصد أمريكا ) والثاني التبرير ( ويقصد بذلك الدول المطبعة ).
- ورد في البيان ( إن العالم كله مدعوّ للوقوف في وجه هذا التوحش الفظيع ومنع تمادي قوات الاحتلال عن تنفيذ مخططاته لإلحاق مزيد من الأذى بالشعب الفلسطيني المظلوم ) وهذه هي العقدة والحل .. فالتمادي هدف يريده الصهاينة .. والحل الوحيد هو الوقوف بوجه الكيان واجباره على التوقف.
ولاحظ أيها القارئ دقة تعبير البيان بقول ( مخططاته لإلحاق مزيد من الأذى ) وراجع النقاط التي ذكرناها أعلاه حول سبب الرد الوحشي ..لتعرف أنه مخطط ذو أهداف .. وليس مجرد ردة فعل غاضبة.
- ورد في البيان ( إنّ إنهاء مأساة هذا الشعب الكريم ـ المستمرة منذ سبعة عقود ـ بنيله لحقوقه المشروعة وإزالة الاحتلال عن أراضيه المغتصبة هو السبيل الوحيد لإحلال الأمن والسلام في هذه المنطقة ) ويعيد البيان هنا تأكيد أمرين مهمين .. وهما ( ضرورة زوال إسرائيل وعودة الأرض لأصحابها وليس الاكتفاء بحل الدولتين ) و ( أن بقاء إسرائيل سيحرم المنطقة كلها من السلام .. وليس فلسطين فحسب ).
وهذا الموقف هو ما تعاقب على تأكيده وتثبيته جميع مراجع الشيعة .. لأنهم يعتقدون أن هناك ( أمتناع ذاتي ) في تركيبة هذا الكيان يمنعه من السلام .. وجميع وعوده وكلامه عن إيقاف بناء المستوطنات .. وإخفاء نصوصه التي تطالب بالأرض من النيل إلى الفرات .. كلها أوهام لا يمكن أن تخفي حقيقته.
لكن البيان لم يشر إلى طريقة زوال هذا الاحتلال .. هل هو بالسلاح ؟ أم بضغط دولي ؟ أم بحصار عربي ؟ ويبدو أن النقطة التالية أجابت عن ذلك.
- وأخيراً .. ورد في البيان ( ومن دون ذلك فستستمر مقاومة المعتدين وتبقى دوّامة العنف تحصد مزيداً من الأرواح البريئة ).
وبما أن الخطاب هنا موجه للمجتمع الدولي والشعوب برمتها ( للعالم كله ) .. فالبيان يضع العالم أمام حقيقة ( إما أن تتحرك الجهود بدون دماء .. أو الحرب ).
- النقطة الأخيرة في هذا المقال _ وأجزم أن القارئ كان ينتظرها أو يبحث عنها _ هي: هل يدعو السيد في هذا البيان إلى حمل السلاح ؟
الجواب: برأيي القاصر أن السيد تكلم على مستويين .. الأول عاجل .. وهو من شأن الضغوطات الدولية .. ويصب اهتمامه على إيقاف الحرب وتوفير المساعدات الإنسانية والطواقم الطبية وإنقاذ الجرحى والمصابين ومساعدة الأهالي وإعادة الماء والكهرباء وضروريات الحياة.
الثاني .. تأكيد مشروعية المقاومة الفلسطينية في الاستمرار .. حتى تحرير أرضها المغتصبة.
ولكن لم يدعُ البيان في هذه المرحلة أحداً إلى حمل السلاح .. والمفروض أنك عرفت السبب بمراجعة النقاط أعلاه .. فالجميع _ بما فيهم حماس _ يتحركون ضمن بنك محدد من الأهداف .. ويعلمون أن الأمر سينتهي بوقف القتال والتفاوض على الأسرى.
فليس من المنطقي في مثل هذه الظروف وضمن هذه المعادلة .. أن يعلن المرجع الأعلى أو حتى يلمح .. بنوع من النفير العام.