
تم الإعلان عن وثيقة تجديد الخطاب الديني في مصر، بدعوة من شيخ الأزهر ومفتي الديار ووزير الأوقاف ومعهم كما جاء بالوثيقة نخبة من المثقفين على رأسهم الدكتور صلاح فضل، وفي الوثيقة الكثير مما يُكتب عنه وفيه، وجاء مليئاً بما نطالب به من تحريم التكفير والقتل والسبي، وكل ما تقوم به داعش وأخواتها، ولكن الوثيقة أيضاً تحتاج لنقدها، ونحن لا نصطاد الخطأ لنجعله خطيئة ولا الصواب لنقلل من قدره، ولا التشكيك في نيات القائمين عليها بالطبع.
الملفت للنظر في ديباجة الوثيقة تقول نصاً: ” تأسيساً على مرتكزات الفكر الإسلامي الوسطى التي درج الأزهر الشريف على اعتمادها نهجاً وغاية، ومراعاة لمنجزات التطور الحضاري التي دعمتها الثقافة العربية الحديثة، واعترافاً بضرورة إعمال العقل النقدي، وتمكين الفكر العلمي …”، العقل النقدي والفكر العلمي هما مربط الفرس، وكان يمكن للوثيقة الحديث عن تحرير الفكر والعقل من قيوده، وهو سيقود حتما لكل ما جاء بها ودعا إليها، فالعقل النقدي هو أعظم هدية من الله للإنسان، والقرآن الكريم ملئ بالدعوة للتفكير والتأمل، بل ومناقشة الأسس الإيمانية والكافرة، الله جل شأه يقول في سورة سبأ الآية 34 ” وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين”، وجاءت الآية في الحوار مع الكافرين، فجعل الله الحوار على قدم المساواة دون إكراه أو جبر، ومفاده أن كل قول إما هدى أو ضلال، فإما أن يكون المؤمنون على هدى والكفار في ضلال وإما العكس، وهو تمييز نقدي واضح للفكر والعقل معاً، وهو ما دعا الفيلسوف الأميركي جون ديوي في كتابه الرائع “كيف نفكر” أن يقول: “العقل الخلاّق المبدع هو: العقل المفكر الذي لا ينطوي على مجرد تسلسل للأفكار، بل هو ترتيب يساهم فيه كل جيل في تعزيزه بالنتائج السليمة.
إنه يُشبّه الأمر بتيار أو قطار أو سلسلة يعتمد بعض أجزاء الفكر على بعضه الآخر”، وبالتالي فالعقل النقدي والفكر العلمي هما أسس أي حضارة إنسانية، والحضارة الإسلامية شعت عندما كان الفلاسفة قادة الأمة وليس الفقهاء، وعندما أُحرقت الكتب والمكتبات حدث النكبات، ومن ثم لو وضعنا أمام العقل النقدي أي عقبات ولو كانت متعلقة بجوهر العقيدة ذاتها لضاعت الفكرة وضاع أي حديث عن التجديد لأي خطاب ديني، ومن المفترض أن تكون الوثيقة ملزمة مثلاً لأعضاء مجلس النوّاب، تلزمهم إلغاء أو تعديل مادة ازدراء الأديان والتي سُجن على أساسها إسلام بحيري، لأنه استخدم المنهج النقدي لكتب التراث، وتكون الوثيقة أيضاً داعية لإعادة نشر الكتب المختلف عليها، والي كُفر أصحابها بفتاوى الأزهريين والسلفيين الوهابيين على السواء مثل كتب فرج فودة “الحقيقة الغائبة – قبل السقوط – الإرهاب – ومناظرته القاتلة مع الشيخ محمد الغزالي)، ومثل كتب الدكتور طه حسين المثيرة للجدل والشك الديكارتي والتي جعلت الوهابيين يكفروه حتى اليوم (في الشعر الجاهلي – الفتنة الكبرى – مستقبل الثقافة في مصر)، بل وكتب سيد القمني ونوال السعداوي وأحمد صبحي منصور ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من المثيرين للشغب الفكري وإعمال العقل حتى لو كانوا مخطئين، الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب مدرسة العقل قال “هذا رأينا فمن جاء بأفضل منّا قبلناه واضربوا برأيي الحائط”، وهي مقولة نقدية من الطراز الأول.
على كل حال كان يمكن للوثيقة أن تقول قررنا تحرير العقل من قيوده والنقد من أغلاله، وهذا كان يكفي، النقد بداية المعرفة، ولا يضير أي دين نقده تراثه، أو حتى نصوصه، لقد قال المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة”: ” لقد ظلت المسيحية تتعرض للنقد طوال مائتي عام ومع ذلك ظلت راسخة في قلوب أتباعها”، وهو أمر يؤكد أن النقد العلمي، هو بداية تحرير العقول وبداية أي حضارة، ونواة الإيمان العقلي والقلبي الوجداني معا، ويبقى القول إن الوثيقة غير ملزمة للشيوخ من خارج مصر خاصة شيوخ الوهابية، ولكنها من المؤكد ستجرك قليلا من المياة الآسنة، وتظل الوثيقة الخطوة الأولى للألف خطوة، وعلى الله قصد كل السبل، ومنها سبيل النقد وتحرير الأفهام..