بعد حرب الخليج الثانية , وهزيمة الجيش الصدامي عام 1991 , ورجوع العراق الى ظروف العصور الوسطى , اذ انقطعت الكهرباء وعم الظلام ارجاء العراق , وانتشرت جثث الضحايا من العسكريين والمدنيين العراقيين جراء القصف العشوائي والمعارك الضارية , واختفى الوقود , وحدثت ازمة ( البنزين ) , وارتفعت اسعار المواد الغذائية , واختفت السلع الضرورية , وانتشرت الشائعات والدعايات … الخ ؛ عم الاستياء والغضب الشعبي والاستنكار الجماهيري العراق جله , من جنوبه الى شماله , وتحررت المحافظات واحدة تلو الاخرى من سيطرة ضباع الفئة الهجينة وذئاب الطغمة التكريتية ومجرمي الاجهزة الامنية والحزبية والعسكرية … ؛ اذ لاذ المجرمون والجلادون بالفرار .
و وصلت انباء الانتصارات الى العاصمة ؛ فهبت مدينة الثورة وخرجت عن صمتها , وجاءت جحافل المواطنين وجموع المتظاهرين من اخر شارع الداخل وكذلك شارع ( الجوادر ) وهي تقطع الشارع بالطول , وكنا نحن بانتظارها عند تقاطع مستشفى القادسية بالقرب من تسجيلات علي صالح مقابل فرقة الفرسان البعثية او نادي الفرسان الرياضي , و قد وصلت اصوات الجماهير الينا وهي تهتف بصوت حقيقي وعالي كاد ان يصل الى عنان السماء من فرط قوته وصدقه ومبدئيته ؛ ومن تلك الشعارات التي لا زالت عالقة في الذاكرة : (( يا بغداد دوري دوري خل صدام يلحك نوري )) و (( لا اله الا الله صدام عدو الله )) و (( ايامكم كلها ظلم كواويد بعثية )) ولعل هذا الشعار الاخير والذي صدحت به حناجر الشباب والاحرار ؛ هو شبيه بالشعار الذي اطلقه اباءهم واجدادهم في حادثة اغتيال عبد الكريم قاسم , فقد خرجت الجماهير وقتذاك تهتف ب : (( ماكو زعيم الا كريم كواويد بعثية )) .
ولعل هذه الشعارات المختلفة كانت تمثل رؤى واراء الناس وقتذاك , اذ خرج السكير ( العركجي) مع مربي الحمام ( المطيرجي ) مع العامل والطالب والكاسب والمعلم والجندي والمتدين … الخ ؛ في ملحمة جماهيرية خالدة وفسيفساء اجتماعي قل نظيره في تاريخ العراق المعاصر .
وعندما اقتربت الجماهير الثائرة من التقاطع المروري وبلغت القلوب الحناجر , وهرب البعثيون من الشارع وصعدوا الى اعلى السطح في بناية فرقة الفرسان وسط الصيحات والشتائم ورمي الحجارة ( بالمصايد ) عليهم , وكان عددهم لا يتجاوز العشرين شخص فقط الا انهم كانوا مدججين بالأسلحة الخفيفة , واثناء هذه الاحداث ؛ جاءت سيارات دفع رباعي حديثة مسرعة – قيل انها من ضمن السيارات التي استولى عليها صدام في الكويت – من جهة منطقة الحبيبية ؛ وعليها مدافع رشاشة – احاديات – , وعندما وصلت التقاطع استدبرتنا واتجهت نحو الجماهير القادمة من اخر شارع الداخل وفتحت النيران الكثيفة على الثوار , وتم تعزيز هذه القوات ب سيارات اخرى مدنية – من نوع اولدز موبيل وسلبرتي – يقودها عناصر مسلحة من جهاز المخابرات والامن الخاص … ؛ وتفرق الناس في ازقة و ( درابين ) وقطاعات المدينة , وسقط العديد من الشهداء الاحرار , واستبشر البعثيون خيرا , ونزلوا من اعلى بناية فرقة الفرسان , ليشاركوا في قمع الانتفاضة الشعبية الخالدة , ولم يستغرق الامر سوى ساعات , حيث تم القضاء على هذه الشعلة التحررية الصادقة , وعاد الوجوم واليأس والقنوط والاكتئاب الى حياة الناس مرة اخرى … ؛ واستمرت المطاردات والملاحقات الامنية اشهر عديدة وراح ضحيتها الالاف من خيرة احرار وشرفاء وابطال المدينة الثائرة .