دقيق جدا قول الليبراليين ، ان المتغير هو الثابت الوحيد، ليس لأن الأرض تتحرك ثلاث حركات في الثانية الواحدة بسرعة فائقة ونحن عليها كأننا ثابتون ، وليس لأن الحركة أساس تكوين المادة كما يقول الفيزيائيون، بل لأن مراحل الانسان العمرية تشهد متغيرات لا تعد ولا تحصى على المستويات الشخصية والمجتمعية وتكوينات الدولة والعلاقات الدولية وصولا الى تقلبات موازين القوى في العالم ، ويبقى الانسان متمسك بوهم ثوابت ليس لها وجود الا في مخيلته.
نحن الآن ازاء متغير دولي كبير، تبدو ملامحه واضحة بعد اجتماع ما يسمى بالسبعة الكبار الذين يناصبون العداء للصين وروسيا في قمة هوروشيما قبل بضعة أيام ، اذ تبدو ملامح هذا المتغير واضحة من تصريحات زعماء الدول المجتمعة وما تضمنه البيان الختامي. فالحرب في أوكرانيا لم تزد في التباعد بين هذه الدول من جانب والصين وروسيا من جانب آخر فحسب، بل أسست لوجود عالم بمعسكرين الأول تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان وألمانيا وكندا، والثاني تقوده الصين وروسيا وبشراكة اقتصادية تتبلور على شكل تحالفات مع الدول الأعضاء في مجموعة بريكس، وكلا الفريقين بدأ يخطو خطوات متعددة باتجاهات مختلفة لتقليل فرص الفريق الآخر.
المجموعة التي تقودها الولايات المتحدة (وهي بصدد زيادة عزلة روسيا واستنزافها وتضييق الخناق عليها في حربها مع أوكرانيا) أقر زعمائها بزيادة العقوبات على روسيا وتكريس عزلتها الدولية، وبخطورة الاعتماد على التجارة مع الصين، داعين لما يسمى بالمتانة الاقتصادية والتنويع في انتاج السلع داخل حدود دولهم واندماجاتهم الجهوية ، في وقت تحاول فيه هذه المجموعة اعادة الثقة مع دول الجنوب ، التي لحق بنا ضرر من سياسة السبع الكبار جراء الكيل بمكيالين في القضايا الدولية وجراء عدم الالتزام بالوعود والمواثيق الدولية الا في اطار مصلحة تلك الدول الصناعية الكبرى. ولاحتواء دول الجنوب وعدم السماح لها بالاقتراب أكثر من مجموعة “بريكس” ستقدم مجموعة السبعة لهذه الدول مزيدا من الدعم في مجالات الصحة والأمن الغذائي والبنية التحتية، لتطوير علاقات أوثق تنافس به علاقات تلك الدول مع الصين التي استطاعت خلال العشرين سنة الماضية، أن تقترب كثيرا من دول العالم ذات المواقع الجغرافية المرتبطة بمشروع الحزام والطريق، أو ما يسمى بطرق الحرير الشمالية والجنوبية .
وليس الصين فحسب، بل ان دول مجموعة “بريكس” برمتها تكاد أن تستقطب كل أنظار العالم بعد أن قدمت نفسها بوصفها دول شريكة لبعضها ولمن يريد الانضمام اليها، ومن هنا ازدادت سرعة التغيير في المواقف الدولية، بعد أن أعلنت دول حليفة للغرب عن تقاربها مع الصين ومجموعة بريكس، اذ غيّرت الولايات المتحدة من سياستها في المنطقة خشية على مشروعها الشرق أوسطي الكبير ، فأجازت أخيرا للعراقيين أن يعملوا بعد أن أعاقت عملهم لسنوات طوال بهدف صناعة الدولة الفاشلة التي لا يكون لها من سبيل الا البحث عن الحلول المستوردة من واشنطن.