حركة قائد (فاغنر) في موسكو … آلية بوتن في ردع تهديد الغرب للأمن القومي الروسي
بقلم : حازم أحمد فضالة
المحلل والكاتب غير الكسول، يحتاج أن يعود إلى مصادر ماضوية تتعلق بالحدث نفسه، لأنَّ الماضي في أغلب المسائل هو جدول متدفق غير منقطع، وهذا ثابت في علم التحليل، أما الإعلام فلا يفهم هذه الحقائق، لذلك نحن بحاجة إلى الوقوف على آلية (روسيا – بوتن) بالتعامل مع الإرهاب الداخلي، ولحظة تهديد الأمن القومي الروسي، ماذا كان يفعل الرئيس الروسي بوتن.
لا نريد أن نعود للماضي، لكن بجملة نعيد التذكير كيف أنَّ قياصرة روسيا كسَّروا رأس نابليون الفرنسي الغربي، واقتحموا عاصمة بلاده باريس في آذار (1814)، وكيف كسَّروا بعده رأس هتلر النازي الألماني الغربي، واقتحموا عاصمة بلاده برلين في أيار (1945)؛ بعد هذا نذكِّر القارئ بالمصادر الماضوية والمعاصرة، بآلية الرئيس بوتن في التعامل مع الإرهاب، وأزمات تهديد موسكو؛ إذ تكون على وفق الآتي:
1- أزمة رهائن مسرح موسكو، في: 23-تشرين الأول-2002، النتيجة: أبادت روسيا العشرات منهم، بين إرهابي شيشاني، وبين رهينة.
2- أزمة رهائن مدرسة بسلان في روسيا، في: 1-3/أيلول-2004، النتيجة: أبادتهم روسيا جميعًا: الإرهابيين الشيشان، والطلبة الرهائن.
3- حاولت أميركا صناعة خاصرة رخوة في جنوب روسيا، مستغلة (جمهورية جورجيا)، في (2008)؛ فأمر الرئيسُ الروسي بوتن، بإنزال الجيش الروسي في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، وأعلن استقلالهما، وهربت أميركا.
4- أسقطت أميركا الرئيسَ الأوكراني (فيكتور يانوكوفيتش – 2014)، في ثورة ملونة، تمهيدًا لضم أوكرانيا لحلف النيتو الغربي، وتهديد روسيا؛ فردَّت روسيا على ذلك، بإعلانها شبه جزيرة القرم مدينة روسية، في آذار (2014)، مُعزِّزةً ذلك باستفتاء شعبي في القرم.
5- كانت كاترينا الثانية (أمبراطورة روسيا)، قبل (150) سنة تقول (أمِن روسيا مِن أمِن دمشق)، فحضرت روسيا بترسانتها العسكرية، دفاعًا عن الدولة السورية والشرعية الدولية والأمن القومي الروسي، بوجه الإرهاب الغربي العالمي على سورية، واشتركت روسيا في (2015).
6- أزمة كازاخستان بداية كانون الثاني-2022،
التي أشعلت فتيلها أميركا لإسقاط الحكومة، ولكن الرئيس الكازاخي (قاسم جومارت توكاييف) استنجد بالرئيس بوتن، فنزلت القوات الروسية في أرض كازاخستان لحماية الدولة، وهُزِمَ المشروع الغربي النيوليبرالي. كذلك حتى الآن في أذربيجان – أرمينيا.
7- بدأ الغرب النيوليبرالي يهدد روسيا العظمى مرةً أخرى، منطلقًا من أوكرانيا، واندلعت الحرب، في: 24-شباط-2022؛ فأخذت روسيا (خُمس أرض أوكرانيا: خمسة أقاليم)، وما زال الغرب النيوليبرالي يُسحَق في أوكرانيا، تحت تداعيات حربه مع روسيا في المسرح الأوكراني.
الخلاصة:
1- روسيا في عهد الرئيس بوتن، تتعامل مع التهديد الداخلي على أنه (إرهاب)، وتقمعه دون رحمة، وجعلت الغرب ينسى (لعبة الرهائن) في روسيا، لأنَّ مكافحة الإرهاب تسحقهم جميعًا.
2- إذا شعرت روسيا بتهديد غربي للأمن القومي الروسي من أي بلد، فإنها تشتبك فورًا، لذلك سحقت المتمردين في جورجيا، والشيشان، وسورية، وكازاخستان، وأوكرانيا.
3- إن كانت حركة يفغيني (قائد فاغنر) قد تمردت (بالسلاح)، على روسيا العظمى، فإنَّ روسيا تعاملها تحت تصنيف (الإرهاب)، وتقضي عليها، لكن كان الرئيس بوتن ذكيًّا حتمًا بتجنبه استعمال تصنيف الإرهاب، لأنَّ هذا التصنيف يستوجب بالضرورة القضاء على فاغنر وقائدها.
4- عناصر المسرح، والمعطيات لحركة فاغنر كلها حتى الآن، لا تساعد أن فاغنر قد تمرد فعلًا، أما مصطلح (الانقلاب) فهو مضحك جدًا.
تفكيك مسرح التمرُّد وأهدافه
لم نقرأ للكُتَّاب والإعلاميين… تفكيكًا لعناصر مسرح التمرد والانقلاب الذي يفترض بيفغيني أنه قاده، ولم نرَ قراءة لأدوات المعركة، وتضاريسها، وموازنة بين نقاط القوة والضعف للطرفين، ودوافع يفغيني، وأسباب نوع آلية الرد الروسي على التمرُّد، لأنَّ روسيا لا تُصَنِّف هذا النوع من التمرُّد -إن كان حقيقيًّا- (خيانة)! بل تُصَنِّفه (إرهابًا)، وتعالجه بأدوات معالجة الإرهاب. من أجل ذلك، نقول:
1- إنَّ يفغيني بريغوجين (قائد قوات فاغنر)، من رجالات الرئيس الروسي (بوتن) منذ عقود، وهنا لا نتكلم عن عامل الوفاء، لكن! نتكلم عن معرفة يفغيني الدقيقة برد فعل الرئيس بوتن مع (الإرهابيين)، وتهديد الأمن القومي لروسيا، التي ذكرناها في القسم الأول من هذا الجزء (ج2-أ).
2- إن كانت أميركا والغرب، هي صاحبة الدعم والخطة لما يسمى (تمرد يفغيني وانقلابه)، فإننا نسأل أصحاب هذا الرأي: ماذا تريد أميركا من يفغيني أن يحقق؟ يحتل موسكو والكرملين؟ يقلب ميزان حرب أوكرانيا؟ هل يتوقع أحد أن يفغيني لا يدري ماذا يريد؟ أو لدى يفغيني قناعة أنه يستطيع أن يرفع سلاحًا تقليديًّا دون دروع حديثة ودون غطاء جوي وصواريخ؛ بوجه روسيا العظمى، ويكون إرهابيًّا يتقلب في ظل (6000) رأس نووي؟
3- يفغيني عنده (20-25) ألف مقاتل، والجيش الروسي مع الاحتياط يتجاوز (4) مليون جندي، ومِساحة الاتحاد الروسي أكثر من (17) مليون كم مربع، ضعف مساحة الصين تقريبًا، فماذا يتوقع يفغيني إن كان هذا التمرد أو الانقلاب حقيقيًّا؟
4- هل تسمح روسيا العظمى ليفغيني أن يسيطر على مدينة (روستوف)، وهي المدينة الكبرى في جنوبي روسيا على نهر الدون، بها أكثر من مليون مواطن روسي، وهي مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية الروسية الثابتة في حرب أوكرانيا، فضلًا عن موقعها الإستراتيجي لأهم الموانئ، والمطار العسكري… كيف تسمح روسيا بالسيطرة على هذه المدينة الإستراتيجية؟ وإذا كان يفغيني قد نجح في احتلال روستوف وتوجه إلى موسكو، فعلى وفق هذه المعايير العسكرية؛ يستطيع (النيتو) احتلال روسيا، منطلِقًا من أوكرانيا، ريثما يحتسي فنجان قهوة!
5- إنَّ مشاهد قصف طائرة (Ka-52) لإحدى ناقلات رتل فاغنر (المتوقف) في فورونيج؛ غير مقنعة، وكذلك تسجيل عملية انحراف صاروخ دفاع جوي أطلقته فاغنر، لاستهداف طائرة هليكوبتر (Ka-52) بعد إطلاق الهليكوبتر بالونات حرارية؛ لم تكن مقنعة، وكذلك (صورة) المروحية الروسية المحترقة، التي نُشِرَت بزعم أنَّ قوات فاغنر أسقطتها؛ لا تكون مقنعة حتمًا. كانت هذه مشاهد قابلة للصناعة، وهي مشاهد موازية للتهديد بالصِّدام المسلح مع فاغنر الذي أطلقته بعض الجهات العسكرية في روسيا، وقوات الشيشان؛ لكنَّ شيئًا من هذا لم يحدث! (لا يمكن أن يحدث)، لكن! هذه عناصر يتطلبها المسرح. (أين جثث الضحايا)!
6- الرئيس الروسي بوتن، لم يذكر في خطابه يوم الحادثة، قائد قوات فاغنر (يفغيني) بالاسم، ولو أنه ذكره لكان هذا تصريحًا بالقتل، لكن بوتن (عنده قصة أخرى مع يفغيني)، تختلف كثيرًا عن سطحية الحدث التي انزلقت عليها العقلية العربية والعراقية؛ إذ أثبتت هذه العقلية يا أسفي إخفاقًا ذريعًا في قراءة الحدث وتحليله.
7- نشرت وكالة رويترز، مقالًا عنوانه: (عدَّلَ البنتاغون الخطأ الحسابي في مساعدات أوكرانيا إلى (6.2) مليار دولار)، في: 21-حزيران-2023. المقال يتحدث عن وجود خطأ في قيمة الأسلحة المقدمة إلى أوكرانيا؛ إذ زاد البنتاغون في إحاطته حجم المساعدات المقدمة إلى أوكرانيا زهاء (6.2) مليار دولار، منها (2.6) مليار دولار في السنة المالية (2022)، ومبلغ (3.6) مليار دولار في السنة المالية (2023). انتهى
ربط بعضهم بين هذا الخبر، وبين حركة يفغيني في روسيا، وتصوَّر أنَّ هذه الأموال قُدِّمت رشوة إلى قائد فاغنر لتنفيذ الانقلاب!! (تصوروا، تنفيذ انقلاب بخمسة وعشرين ألف جندي على (17) مليون كم مربع، مع (6000) رأس نووي، مع (4) مليون جندي)!
8- كنا نرصد يفغيني (قائد فاغنر)، يطلق عبارات التذمر من بداية مشاركته حرب أوكرانيا في (أرتيوموفسك)، (بحجة) التشكي من نقص الذخيرة، وغباء قيادة الجيش الروسي بإدارة الحرب، أو تقصير وزارة الدفاع… أي: شخصية مثل هذا يفترض أن تكون المؤسسة الأمنية الروسية، قد رصدتها وحللتها، واتخذت الاستعدادات اللازمة لتحييدها قبل تهديدها أمن موسكو، وكشْف قنوات الاتصال الاستخبارية بينها وبين الغرب! فلماذا تنام روسيا على خطر مثل هذا (إن كان التمرُّد والانقلاب حقيقيًّا)؟
الاستنتاج على وفق المعطيات
وصلنا إلى القسم الأخير من هذه السلسلة، في القراءة والتحليل لحركة قوات فاغنر الخاصة بقيادة يفغيني، التي حدثت في روسيا في: 24-حزيران-2023، وهنا نقف على الاستنتاج على وفق المعطيات، وعناصر مسرح الحدث، مع ذلك نظل نرصد الحدث وتطوراته؛ لتحديث المعلومات.
الاستنتاج على وفق المعطيات:
1- الغرب ليس له علاقة بحركة يفغيني (قائد فاغنر)، بل الغرب كان الأضحوكة في هذا المسرح.
2- لم يكن يفغيني منفعلًا، ولم يهدد الأمن القومي لروسيا، وإلا لكان بوتن قد طبق عليه آليته في التعامل مع الإرهابيين، وهي (قتلهم وإن كانوا يحتجزون مئات الرهائن الروس صغارًا وكبارًا)، لأنَّ التهديد بالزحف العسكري نحو موسكو؛ يُعَدُّ إرهابًا وإذلالًا لبوتن وروسيا العظمى، وليس تمرُّدًا أو خيانة فحسب.
3- إنَّ تحويل فاغنر وقائدها، أو أي قوة خاصة ثانية تحت قيادة يفغيني؛ إلى قوة متمردة، يرفع المسؤولية عن روسيا، باستهداف هذه القوة لمواقع النيتو خارج حدود أوكرانيا مستقبلًا، استهدافًا تدريجيًّا، وهذا ما بدأت تئنُّ منه بولندا.
4- اقتراب قوة روسية خاصة متمردة خائنة، لكنها (قومية متعصبة للاتحاد الروسي)؛ من السيطرة على قسم من الأسلحة النووية الروسية، فهذه رسالة ردع وتهديد مرعب للغرب، تستحق صناعة حادثة التمرد والخيانة المزعومة مع العناصر التي يتطلبها مسرحها.
5- لم نشهد موجة إعلام غربي نيوليبرالي عالمي، تحيط بتمرد يفغيني (قائد فاغنر) وانقلابه المزعوم، كما هو ديدن الإعلام الغربي ومنهاجه؛ في التطبيل العالي للأحداث التي يصنعها، ليدعمها بالرأي العام، ورفع المعنويات العالية لوكلائه، وإحباط معنويات المستهدَف (روسيا) في مثل هذه العملية، وتحقيق اختراق داخلي شعبي ملون، والغرب هو الذي يكتب سرديته للحدث، ولا يسمح للمعسكر الآخر أن يكتب سرديته من وجهة نظره. وهذا لا يساعد أصحاب الرأي العربي والعراقي، الذين استعجلوا الاستنتاج! وأعلنوا عَمالة يفغيني لمعسكر الغرب!
6- حتى الآن قائد فاغنر (يفغيني)، يتمتع بهويته ووطنيته ومكانته في روسيا هو وقواته، وصار يمثل تهديدًا جديدًا للغرب النيوليبرالي؛ من حدود بيلاروسيا، والمعركة ما زالت في أفضل مسار لها، والأيام حبلى بالمفاجآت.