أفاق سكان قرية نجيا ينغ، بمقاطعة يوننان في جنوب غرب الصين، السبت 26 مايو/ أيار الماضي على حشد السلطات قوات ومعدات لتحطيم 4 مآذن وقبة بمسجد يرجع تاريخه إلى القرن الثالث عشر، أعاد المسلمون “الهوي” بناءه مطلع القرن الحالي.
توجه الناس لأداء الصلاة، فهالهم تجمع 1000 ضابط يقودون قوات لمكافحة الشغب، يطردون المصلين، ويشرفون على تركيب سقالات لهدم مآذن المسجد وقبته المرتفعة. شعر المواطنون بالإهانة، باعتبارهم من “الهوي” ذوي الجذور الصينية، الذين يتعبدون بمساجد حاصلة على تراخيص رسمية.
استنفر تحطيم المآذن النخوة الدينية لدى مواطنين اعتادوا منذ اعتناق أجدادهم للإسلام، منذ 1000 عام، أن يكيفوا تعاليم الدين وممارسة الشعائر، وفقا لتوجهات السلطة.
يحافظ” الهوي” على الهوية الثقافية للدولة، ويتحدثون الصينية، رغم خضعوهم لحالات المد والجزر التي تتعرض لها القوميات والأديان المختلفة من الأغلبية التي تقودها قومية “الهان” في العهدين الإمبراطوري والشيوعي.
في ظلال السلطة
لا يختلف “الهوي” عن “الهان” شكلا وعرقا، بل إن حرص أغلبهم على أن يكون إسلامهم ذا خصائص صينية، وتمسكهم بالبقاء تحت كنف السلطة، وانتشارهم عبر مناطق جغرافية مختلفة، بأنحاء البلاد، أوجد بعض الفروق في ممارسة الشعائر الإسلامية. فقد رأينا عبادات بعضهم مخلوطة بتصرفات كونفوشية وطاوية، حولت التدين إلى ظاهرة صوفية، مليئة بطقوس البخور والتوسل بالقبور وتناول الخمور، وقبول عضوية حزب يعلن اعتناقه الإلحاد رسميا، ويدعي علمانية الدولة.
حاول “ليو تشي” (Liu Zhi) أحد علماء “الهوي” في القرن الثامن عشر، الربط بين أقوال كونفوشيوس الحكيم الصيني وأحاديث رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، معتبرا أن كلا منهما يدعو إلى الفضيلة والانسجام الاجتماعي. وما زال لهذه الدعوة صدى واسع، سمعناه أثناء زياراتنا العديدة للجمعية الإسلامية، ومسجد نيوجيه الكبير في بيجين، وهو مقر المؤسسة الدينية الرسمية ومجمع أئمة المساجد بالبلاد.
يؤمن “الهوي” بأنهم جزء من الدولة، وعليهم التكيف معها للبقاء على قيد الحياة، لدرجة صادمة لشبابهم الذين يفزعون عندما يسافرون للحج والخارج، فيجدون أن ممارسة آبائهم للدين أصبحت خليطا بين صوفية شعبية وطاوية منحرفة عن العقيدة.
هواجس الهان
يكره حكام الصين قبائل الحدود، المنحدرة من أصول غير الهان، منذ أن فشلت أسرة تشينغ في القرن التاسع عشر، في السيطرة على الحدود الشمالية الغربية التي يسكنها الإيغور والقازاق والأوزبك ذوو الجذور التركية. وقد زادت كراهيتهم في العصر الحالي، بعد ضم قبائل التبت والمنغوليين إلى سلة قوميات تمتلك تميزا لغويا وعرقيا، وزادت على المسلمين أكثر لأن الدين يشعرهم بالقوة والرغبة في الانفصال عن دولة ملحدة، لم يكونوا جزءا منها، ولم يرتبطوا بها إلا بعد تدهور الدولة العثمانية.
ظل “الهوي” خارج دائرة الكراهية، على مدى التاريخ الإمبراطوري، وبداية الثورة الشيوعية، حيث شاركت قيادات “الهوي” بمدينة شيآن عاصمة الصين القديمة، في قوافل قوات جيش التحرير الشعبي، بقياد شي تشونع شون، والد الرئيس الحالي شي جينيبنغ. وانضم “الهوي” في يوننان ومدن الجنوب إلى الشيوعيين، وجمعوا مئات الآلاف منهم من شنغهاي جنوبا ونانجين وتيانجين شرقا حتى دخلوا العاصمة بيجين عام 1949، وكافأهم الشيوعيون بأن ميزوهم بعضوية مجلس نواب الشعب والمناصب الرسمية، وأعطوا تجمعاتهم استقلالا ذاتيا، تآكل مع تنامي نعرة قومية عنصرية لــ”شي” بثها بين شبيبة حزب يدعي أن “الإسلام يمثل خطرا على وجوده داخل الدولة”.
“الهوي” في مواجهة “الهان”
فقد “الهوي” جزءًا من مكانتهم في ستينيات القرن الماضي، حيث هدمت مساجدهم، أثناء ثورة ثقافية حاربت الأديان والعقائد القديمة، ثم أعادت السلطات الاهتمام بـ”الهوي” في ثمانينات القرن الماضي في إطار تصحيح سياسي اجتماعي، ومحاولة للتقرب من العالمين العربي والإسلامي، لدعمهما حصول الصين على اعتراف دولي بوحدة أراضيها، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن.
سمح الحزب الشيوعي للدول العربية بتمويل إقامة مدارس إسلامية، وإعمار مساجد “الهوي” بمناطق مختلفة، وخاصة ننغشيا بشمال غرب البلاد، وهو ما مكنهم من إعادة إحياء مساجد هدمها الشيوعيون المتعصبون، ومزجت العمارة الإسلامية بالصينية، مع رفع المآذن والقباب الخضراء.
لكن الحزب الشيوعي تحول عن سياساته، منذ وصول “شي” إلى السلطة، إذ اعتبر المآذن مظهرا من مظاهر النفوذ الأجنبي، فأزال مآذن وقباب ألف مسجد، أغلبها بمناطق “الهوي” الذين غضوا الطرف عن اضطهاد إخوانهم الإيغور وهدم مساجدهم، وحرمانهم من الصلاة والصيام وقراءة القرآن بمنازلهم.
مطاردة حماة المساجد
تظهر الصور والفيديوهات المسربة من داخل قرية نجيا ينغ “Najiaying” ضرب الشرطة لآلاف المصلين الذين شكلوا مجموعات للدفاع عن المسجد ومنع السلطات من هدم مآذنه وقبته الخضراء، وإصرار الرجال والنساء والأطفال والعجائز على حماية مسجدهم.
يريد “الهوي” حريتهم الدينية والعيش بسلام، ويرون المسجد جزءًا من كرامتهم التي دنستها السلطة. وقد قبضت الشرطة على 30 شخصا، بتهم إثارة الشعب وتكدير الأمن العام، وتعريض منشآت عامة للخطر.
تطلق الشرطة طائرات مسيّرة، فوق القرية والمناطق المحيطة بها في مدينة “ناجو”، وتطلب عبر مكبرات الصوت ممن دافعوا عن المسجد أن يسملوا أنفسهم للسلطات، قبل 6 يونيو الجاري، وتدعو الناس إلى الإبلاغ عمن شارك في التظاهر. وقد عطلت شبكات الإنترنت لبث الفزع في قلوب مواطنين يعلمون أن تراجعهم يعني إزالة آخر المآذن بمنطقة يعيش بها 10 ملايين مسلم.
حرب بلا هوادة
يصر الحزب الشيوعي على تحويل المآذن إلى “باغودا” من عدة طوابق طاوية الطراز، وتحويل القبة إلى مسطح. يعلم “الهوي” أن هدم القبة والمئذنة هما بداية الهدم الأخير للإسلام والمسلمين، حيث تحولت الحرب من محاربة الدين إلى حروب على الهوية والأعراق غير “الهان”.
ويؤمن “الهوي” بأن هدف الحزب الشيوعي، ليس تغيير المعالم المعمارية لمساجد أقلية تتماهى معه منذ نشأته، بل هو إبادة جماعية لأقلية حافظت على روابط ثقافية وعرقية، تربت عليها عبر العصور. ويعلم المقيمون بـ”نجيا ينغ” أن حملة القمع القادمة ستكون أكثر قسوة، إذ ستنتقل من حظر ذهاب الأطفال والقصر إلى المسجد، إلى ملاحقة المصلين والنساء المحجبات، والحرب على الإسلام بلا هوادة كما يفعل الشيوعيون بـ20 مليون مسلم في شينجيانغ.