بعيداً عن المداخل المنهجية لفهم العقل الجمعي وتشكيله، ومراحل تشكيل العقل الشيعي العراقي وعوامله وعناصره؛ نتوقف في هذا المقال عند نتاجات هذا العقل ومخرجاته وإفرازاته، وضرورات إعادة تشكيله، والعناصر التراكمية التي ينبغي أن تستند عليها عملية إعادة التشكيل التدريجي، ونترك المداخل للدراسة الكاملة التي سننشرها فيما بعد.
ابتداءً؛ أرى أن العقلين السني والكردي العراقيين، وفق ما تفرزه نتاجاتهما على مستوى الأفراد والمجتمعات والنخب، هما أكثر التصاقاً ــ من العقل الشيعي ــ بقضاياهما ومصالحهما الخاصة، وحاجاتهما وأهدافهما المكوناتية، وتعتمد هذه الرؤية على أربعة نتاجات:
1- امتلاك السنة والكرد مشروعيهما المكوناتيين الخاصين، وعدم امتلاك الشيعة لمشروع خاص بمكونهم، وسبب ذلك يعود الى وجود أوهام موروثة في العقل الشيعي، خلاصتها أن امتلاك مشروع خاص بالشيعة يشكل تعارضاً مع مفهوم الوطنية، ويجعلهم في معرض الاتهام بالطائفية ومحاولة إقصاء المكونات الأخرى، وهي الأوهام الذي ظلت ترسخها السلطة السنية في العقل الشيعي العراقي منذ مئات السنين، ولذلك؛ كان الشيعي العراقي يرتعب عند الحديث عن ضرورة إمساكه بالسلطة، كما أنه يخشى الآن أن يكون له مشروعه الشيعي الخاص، الذي يحقق من خلاله هدف الإمساك بقرار الدولة وسلطاتها رغم أنه يمثل الأغلبية السكانية المهمّشة. وفي مقابل هذا التردد والضعف، تجد الكردي والسني جريئين في الجهر بمشروعيهما الخاصين، دون النظر الى ما قد يتعرضان له من اتهامات، لأن واقعيتهما تقودهما الى الاهتمام بما هو على الأرض وليس الاهتمام بقيل وقال خصومهما.
2- مثالية العقل الشيعي العراقي في موضوع استحقاقات السلطة والجغرافيا والثروة وثقافة الدولة وهوية الأغلبية، في مقابل براغماتية العقل الكردي وسلطوية العقل السني؛ فالشيعي مستعد للتضحية بكل شيء من أجل إرضاء السني والكردي، بينما لايكف السني والكردي عن المطالبة بالمزيد، حتى تحقيق المساواة في كل شيء، وليس تحقيق العدالة.
3- قدرة العقل السني على دفع العقل الشيعي العراقي لتشكيل وعي مضاد للذات، في حين يستحيل على الشيعي، حتى التفكير، بتشكيل وعي سني وكردي مضاد للذات؛ فتجد الشيعي ضعيفاً أمام الدعاية السنية الاجتماعية السياسية، ويخضع بسهولة لتأثيرها وتوجيهها، بل ظل كثير من الشيعة يعملون في مؤسسات الدعاية السنية والكردية المعادية للشيعة، وهو ما يُنتج رضا لدى الشيعي، بل اندفاع، نحو تمزيق نسيجه الداخلي، وجلد ذاته، وضرب مقومات قوته، وإضعاف واقعه، بينما لايمتلك الشيعي أي تأثير على العقل السني أو على وعي السني بذاته، وكأنّ لدى السني والكردي تحصين ذاتي تجاه أية دعاية شيعية اجتماعية سياسية، إن وجدت، على العكس من الحصون الشيعية الاجتماعية المنهارة.
4- وضوح الرؤى والأهداف في العقلين السني والكردي على كل المستويات، وتبعثرها في العقل الشيعي؛ فالنخبة السنية – مثلاً – هدفها في الحياة انتزاع السلطة والثروة والجغرافيا وهوية الدولة، والتفرد بها، ولايعنيها الوطن إلّا بمقدار ما يحقق لها هدفها المذكور، وإذا تفشل في تحقيق هدفها؛ فإن الوطن لايعدّ وطنها، وهكذا الأمر بالنسبة للنخبة الكردية؛ فهدفها المركزي هو تأسيس الدولة الكردية القومية، وتفهم الوطن بأنه الرافعة التي تحقق لها هدفها الخاص. بينما تتشبث النخبة الشيعية بأهداف عامة فضفاضة، تحت عنوان الوطن والوطنية، وهي أهداف زرعتها السلطة السنية في العقل الشيعي، ليبقى الشيعي حطب حروب الوطن الذي يقوده السني، والحلقة المعدومة في قرار الدولة وثقافتها وعقيدتها وهويتها، ظناً منه بأنه يفعل ذلك من أجل الوطن، لأنه (الأخ الاكبر) و (أُم الولد) الذي يجب أن يتنازل دائماً ويضحي باستحقاقاته من أجل الوطن.
إنّ النخبة الشيعية، ممثلة بعلمائها وسياسييها ومفكريها وأكاديمييها وكتّابها وإعلاميّيها وخطبائها؛ مبعثرةٌ – غالباً – في أهدافها، وكل شريحة أو تيار أو مجموعة تكتفي بهدف محدد أو أكثر، وفق فلسفتها وايديولوجيتها، ولاتوجد شريحة، إلّا نادراً، تفكر بحزمة أهداف متكاملة تنطوي على مشروع شيعي شامل بحجم الوطن؛ فنجد بعض هذه الأهداف متعارضاً مع الأهداف الأخرى أو يوازن بينها بشكل ترقيعي، ما يعني حضور التعارض بين الشرائح والجماعات الشيعية، الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بشكل مستدام، وكل منها يرى أن لهدفه الأولوية، وأنه هدفها هو الأساس أو الأوحد. وأبرز هذه الأهداف:
– هدف انتظار الإمام المهدي، بشكليه السلبي والإيجابي.
– هدف المحافظة على الوجود والحرية المذهبية والطقسية، حتى لو فقد الشيعة الدولة والسلطة.
– هدف الحصول على السلطة السياسية والصراع عليها، دون الاهتمام بهوية السلطة والدولة، وركائزهما العقدية والثقافية.
– هدف انتزاع الاستحقاقات المعيشية والسياسية، ويكون هذا الانتزاع من السياسيين الشيعة حصراً، أو ما يسمونه الأحزاب الشيعية، وليس من الدولة أو من السياسيين السنة والكرد؛ ما يحوِّل الواقع الاجتماعي الشيعي دائماً الى كتلة من نار.
– هدف إصلاح النظام الاجتماعي الديني والمؤسسة الدينية، سواء بنوايا ورؤى وأفعال صالحة، أو بمخططات تخريبية أو تنتج تخريباً.
– هدف الحفاظ على سمعة المذهب وعدم تلويثه بسموم السلطة، ولو كان ذلك على حساب المصالح الواقعية للشيعة.
– وهدف إثبات الانتماء للوطن والعمل بمقتضى المفهوم السني للوطنية، والتنازل لباقي المكونات في سبيل ذلك، على حساب مصلحة المكون الشيعي.
وربما تكون هذه الأهداف غير متعارضة في أصولها، إذا ما تم تهذيبها وترشيدها وتخليصها من الشوائب السلبية، وصولاً الى جمعها في حزمة واحدة من الأهداف، لأنها تكمل بعضها الآخر، لكن هذه الوحدة الهدفية لاتعمل بها النخبة الشيعية العراقية، لأن عقلها المبعثر يقود الى التنازع عليها، بل بعض أجزاء هذا العقل تعتقد أن أهداف أجزاء العقل الأخرى غير مشروعة.
وربما هناك من يتصور بأن إفرازات هذا العقل المبعثر هي نتاج مرحلة ما بعد العام 2003، أو أنّ السياسيين الشيعة يتحملون وحدهم مسؤولية هذه الإفرازات، أو أنّ التغيير المطلوب يتلخص باستبدال الأحزاب والسياسيين بوجوه جديدة، أو بمجيء مرجعية أخرى، أو باعتزال الإسلاميين وسيطرة العلمانيين على الواقع الشيعي، وهذا التصورات خاطئة بالكامل ولاتعي حقيقة مشكلة العقل الشيعي؛ إذ أن المشكلة الحقيقية هي في العقل الشيعي والوعي الشيعي الموروث، وليس في الفعل الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي، كما أنّ مسؤولية تشكيل هذا العقل المبعثر، وإفرازات تعارض أهدافه، وعدم امتلاكه مشروعاً خاصاً بالمكون، والتضحية باستحقاقاته، هي مسؤولية تضامنية، ويتحملها الجميع كماً ونوعاً، بمن فيهم النخب التاريخية، كلّ حسب موقعه، من عالم الدين الى السياسي الى العسكري الى المثقف الى الأكاديمي الى المفكر الى الكاتب الى الخطيب الى الأديب الى الصحفي الى الإعلامي الى الفنان الى التاجر الى المستثمر الى الحقوقي، وصولاً الى الطالب الجامعي.
وللحديث عن حجم ونوع مسؤولية كل شريحة، وقواعد إعادة تشكيل العقل الشيعي العراقي؛ مقالات قادمة.