ان تقييم حركة السيدالشهيد محمد باقر الصدر وفق المتغيرات والتطورات الحالية قضية ينبغي التأمل فيها والتأني لكي لا نظلم الشهيد مرتين، مرة في تركه وحيداً يقاسي اوغاد البعث وبشاعة الطاغية صدام واخرى عندما نخطّىء منهجه ونقّيمه وفق رؤانا الجديدة.
الشهيد الصدر استشرف واقع امة عانت من التهميش والاقصاء والالغاء من الحكومات المتعاقبة على العراق ، واختزل حركة التغيير بزمن قصير لكي يعيد للامة كيانها وهيبتها وهويتها وبدد ركود الصمت وثقافة التبرير ومزّق رداء الخوف الذي ارتدته الامة عقوداً طويلة .
وبناء على ما مرّ ذكره فانه يصعب على الباحث اعطاء البحث حقه في شخصية اثارت الجدل الواسع في الوسط السياسي والفكري والحوزوي، واجتمعت فيها مزايا وسجايا قلما تتوفر مجتمعة في غيره من اعلام الفكر في الاسلام.
نهضة الشهيد الصدر هي نهضة فريدة في الاداء الحركي الشيعي واستثنائية في مسارها وانطلاقها ، تختلف عن بقية النهضات الثورية في العراق، من نواحي عديدة قد تكون تصديها لمواجهة السلطة البعثية في وقت مبكر ومرجعية فتية ظلت منتشرة في الوسط النخبوي ومنحسرة في الوسط الشعبي بسبب وجود مرجعيات تقليدية تحظى بجماهيرية في الداخل والخارج.
وينبغي التنويه على قضية هامة في هذا السياق وهي ان جهاد علماء الشيعة ضد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 وثورة العشرين الكبرى وما اعقبها من مواقف علمائنا بتحريم الانتخابات كان مرحلة سابقة ومتقدمة عن طبيعة النهضة التي قام بها الشهيد الصدر لكن الفارق هو ان الشهيد الصدر كان فريداً يقود الركب بوجه ابشع طاغية في المنطقة والعالم وفي ظروف تختلف تماماً عن تلك الظروف بشاعة وقمعاً ووحشية.
والاشراف على العمل الحزبي او التأسيس له قضية تستبطن المزيد من المغامرة والجرأة لا بلحاظ الوضع الامني او الحظر الحكومي للاحزاب وانما بحسب الواقع الحوزوي وقوالبه في التحصيل والبحث والارشاد واهمال الاهتمام الحركي الحزبي وميول الاغلبية من رجال الدين الى التبتل والاحتياط والانعزال عن امور الدنيا وشؤونها السياسية التي تعتبر في نظرهم نمطاً من الركون الى الدنيا ومغرياتها.
كراهية العمل الحزبي في الوسط الحوزوي والديني كان ينبع من تجربة مريرة عانى منها الكثيرون من الاداء الحزبي اللاديني للاحزاب العلمانية وغيرها الذي اعطى انطباعاً سلبياً عن اساس الحزبية واعتبرها البعض صنمية وفئوية لا تليق برجال العلم الذين اوقفوا انفسهم لخدمة الجميع.
وتصدي السيد محمد باقر الصدر الى العمل الحزبي تأسيساً واشرافاً انما يعني قفزاً على الواقع ومرتكزاته وخروجاً على النمط السائد الذي يعتبر مقدساً او مألوفاً في عرف الكثيرين، ويعكس في نفس الوقت الرؤية الاستشرافية للشهيد الصدر وقناعته الاكيدة في اهمية العمل الحزبي في عهد كان العمل الحزبـي حكراً على غير الاسلاميين الذين اريد لهم ان يعيشوا في داخل جدران المساجد منهمكين في التسبيح والتهليل والطقوس والبكاء واللطم دون ان يكون لهم دوراً في شؤون السياسة والمجتمع وسط شعور اسلامي بالعزلة والاحباط والانكفاء وصمت حوزوي مريب من المبادرة والتحرك على تحصين الوضع الاسلامي في العراق وحماية المعتقدات الدينية من الاراجيف والشبهات والافتراءات.
بينما كان المد الشيوعي والتيار القومي يتموّجان في الشارع العربي والعراقي ويفرضان وجودهما وافكارهما على المجتمع العربي والاسلامي.
ولم يبادر احد لمواجهة هذا الواقع وتعقيداته للحضور في الميدان والاثبات والبرهنة للعالم كله بان الدين هو الحل وهو الكفيل في حصانة اكيدة وضمانة حتمية من الانزلاق والزيغ والانحراف الا مبادرة المرجع الراحل السيد محسن الحكيم بفتواه الشهيرة :(الشيوعية كفر والحاد) التي اعتبرها بعض المراقبين بانها جاءت لخدمة حزب البعث لاسباب تعبوية وهو محض افتراء ، بالاضافة الى مشاريع المكتبة الاسلامية التي انتشرت في العراق واطلق عليها مكتبة السيد الحكيم.
في خضم هذه المناخات وتعقيداتها وانحسار الفكر الاسلامي الحركي وغياب المبادرات الاسلامية لمواجهة المخاطر والتحديات نهض السيد الشهيد محمد باقر الصدر مشمّراً عن ساعديه لينفض غبار الجهل والاحباط عن وجه العراق، ويسهم في تأسيس حزب اسلامي مع نخبة من طلائع التحرك الاسلامي في العراق، وتم تأسيس حزب الدعوة الاسلامية وسط جدل حوزوي مثير بين مؤيد ومندد ومتردد.
ولم يقف الشهيد الصدر على حدود التأسيس ومخاضاته بل بادر لمواجهة الفكر الفلسفي الغربي الوافد في طروحاته المتعددة فألف فلسفتنا واقتصادنا والاسس المنطقية للاستقراء برؤية اسلامية فكرية معاصرة اتسمت بالنقض والاثبات وتسفيه الافكار الالحادية التي وجدت انبهاراً واسعاً في الوسط الشعبي.
لم يلجأ السيد الشهيد محمد باقر الصدر الى اسلوب رد الفعل والانفعال والدفاع عن الافكار الاسلامية والعقيدية بل كان فاعلاً في مهاجمة تلك الافكار والتيارات والمدارس الغربية الفلسفية بالدراسة والتحليل العميق.
ولولا يد الغدر والقدر لواصل هذا المفكر العملاق عطاءه الفكري والفلسفي لاغناء الوعي الاسلامي والمكتبة الاسلامية بما يمكن ان يسهم في النهوض والرقي الحضاري. وتصميمه على الشهادة في مواجهة ابشع سلطة دموية في العالم وهو في عهد مبكر للعطاء الفكري بل في أوج عبقريته وألقه قد وضع نهاية لهذا الفكر المتجدد والمعمق ولم تكتمل فصول كتابه الاخير( مجتمعنا) بسبـب قرار السلطة الجائر باعدامه.
ان تأثير محمد باقر الصدر امتد بعد مماته ألقاً دائماً وحيوية متجددة وحمل مشعل أفكاره رجال لم ترهبهم الطغاة ولم تخدعهم الدنيا ببريقها وبعد أن تسلّموا قيادة الامة والمسيرة في المنبر وفي مقاعد الارشاد وفي صهوات الاعلام وكراسي الحكم ـ اصبحوا خدّاماً وليس حكاماً، وكان محمد باقر الصدر أمامهم بفكره وتواضعه وشجاعته .