شؤون اقليمية

انهيار النظام المصرفي العالمي وراء الباب

بقلم : ناصر قنديل

واهم وأحمق من يثق بالنظام المصرفي العالمي الذي يشكل النظام المصرفي الأميركي نواته الصلبة، والذي تهتز طبقاته التكتونية هناك عبر زلازل وهزات ارتدادية لم يظهر أعظمها الآتي حكماً، وغبيّ من يترك أمواله في النظام المصرفي المهدّد بانهيارات لا يستطيع أحد التنبؤ بها، وربما يكون اعتماد الخزنات المنزلية وشراء الذهب هو الطريق الأمثل للتحسّب لمخاطر الإفلاسات المقبلة، كما يقول خبير مالي تعليقاً على إفلاس مصرف سيليكون فالي الأميركي، لأن القضية ليست في عيوب تتصل بأداء المصرف يمكن تجنب انعكاساتها على النظام المصرفي، بمجرد قيام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بسداد الودائع ومطلوبات المصرف المنهار، والفساد المصرفي الذي يشير إليه بعض الذين يحاولون تبرئة النظام المصرفي والدعوة للوثوق به، هو جزء من النظام، كما كشفت أزمة 2008، ولم تتمّ بعدها أي إجراءات لتنظيف القطاع المصرفيّ وتحصينه من هذا الفيروس القاتل، الذي ظهر في 2008 بصفته نظرية مصرفية للنظام الجديد، قوامها الاستثمار في المخاطر الأعلى والاستفادة من التأمين ضدها، وبيع دراسات الثقة بالتصنيفات الآمنة وشراء سندات المضاربة عليها. وهذا جرى في أزمة سيليكون فالي ويُرى في غيره، لكنه ليس سرّ الأزمة ولا سبب الانهيار، بل علامة الفساد في مواجهتها.

 

الأزمة التي ظهرت على مصـــرف سيليكون فالي وتهدد خمسة مصارف كبرى في أميركا خلال الأيام المقبلة، كما تقول نيويورك تايمز، هي واحدة من تداعيات الزلزال الكبير الذي أصاب الاقتصاد العالمي بفعل العقوبات الأميركية والغربية على روسيا والصين، بعد حرب أوكرانيا، والتي أصابت قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، فقد كانت أول نتائج العقوبات على روسيا إنهاء الثقة بحياد النظام المصرفي عن السياسة، حيث تمت ملاحقة المودعين على أسمائهم وأقفلت حساباتهم وبعضهم تمت مصادرة ودائعهم أو تجميدها، وصار كل مودع يشعر بالقلق على لحظة تسييس ينطبق عليه دفتر شروطها، كمثل التهرب الضريبي، أو الصفقات غير المشروعة، وكل وديعة في العالم يمكن أن تكون معرّضة للتحقيق تحت هذين البندين، بعدما كانت العقوبات التي تطال حكومات مثل إيران وسورية بعيدة عن مودعين أفراد، بمثل ما هو حال المودعين الروس بعشرات الآلاف الذين يعيشون كمقيمين وبعضهم كمواطنين وهم فاعلون كبار في الاقتصاد الغربي، رجال أعمال وأساتذة وفنانون ورياضيون على مساحة دول الغرب الأوروبي والأميركي، والعقوبات ما قبل الحرب الأوكرانية واستهداف روسيا، كان يجري تقديمها بصفتها عقوبات على دول بتهم جرمية جرى تسويقها في الثقافة الغربية العنصرية وتقبلها الرأي العام، بينما كانت الصدمة بتهافت الأسباب التي قال الرئيس بايدن إنه يريد محاربة الروس، وليس الحكومة الروسية فقط، معلناً أنه يتطلّع بموجبها إلى مصادرة اليخوت والبيوت التي يتمتع بها الروس في بلاده، ويريد أن يرى أبناءهم خارج المدارس والجامعات التي يرتادها أبناء النخب الأميركية بتكاليف باهظة. وفي النظام المصرفي يشكل القلق من دخول السياسة، حتى السياسة التي يؤيدها المودع، على خط التعامل مع مودع آخر سبباً كافياً للذعر، لأن لا شيء يضمن ان لا تتغير السياسة، فتطال سياسة أخرى المودع نفسه، الذي اعتاد ان حساباته محمية وخصوصياته مكتومة، والحصانة شاملة كل وجوه تعاملاته المصرفية، ولا أحد يستطيع وضع اليد عليها دون إرادته، ودون حكم قضائيّ فرديّ بتجريم صاحبها بعلل قانونية بائنة لا تقبل الشك.

 

هـــذا الشك شكـــل بذرة الاهتزاز الأول، والمصيبة هي أنه بدلاً من أن يؤدي إلى ترجمة الشعور الوطني الأميركي وفي كل دولة غربية بالزهو بالنصر، وترجمته رؤية الانهيار الاقتصادي والمالي الروسي ومقابله الانتعاش الاقتصادي والمالي في دول الغرب، بما يتكفل بطمس التلاعب والعبث بصدقية النظام المصرفي، جاءت النتائج تقول إن روسيا نجحت بتجاوز واحتواء العقوبات، وقامت بإعادة تصديرها إلى الغرب بصورة أزمة طاقة خانقة، وصلت الى جيوب المستهلكين بصيغة ارتفاع في أسعار الاستهلاك انطلاقاً من المحروقات وصولاً الى كل السلع التي يدخل النقل في تركيب أسعارها، وتدخل الطاقة في تسعير تكلفة إنتاجها، وتبع ذلك ارتفاع تكاليف الطاقة المنزلية والتدفئة قبيل فصل الشتاء، وبدأ الحديث عن التضخم، فردت المصارف المركزية الغربية بالإجماع بوصفة واحدة، رفع أسعار الفائدة، لكبح جماح التضخم، بينما ردت الحكومات بمزيد من الاستدانة لتعويض تراجع مواردها بفعل الركود، وبدأت سلسلة تصاعدية عنوانها المزيد من الدين والمزيد من رفع أسعار الفوائد، حتى تجاوز المعدلات القياسية، وبلوغ مراحل غير مسبوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى