بعد ان شهد تراجعات حادة وسريعة امام الدولار الاميركي، عاد الدينار العراقي ليستعيد جزءا من الخسائر التي مني بها خلال الاسابيع القلائل الماضية، بالتزامن مع اجتماعات بين وفود عراقية واميركية مختصة في مدينة اسطنبول التركية، من اجل تنسيق الخطوات والاجراءات التي من شأنها احتواء وتطويق الازمة المالية العراقية ومنع تداعياتها الخطيرة على مجمل الوضع العام في البلاد.
وبعد اكثر من جولة حوار في اسطنبول بين الوفد العراقي برئاسة محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق، والوفد الاميركي برئاسة نائب وزير الخزانة الاميركية براين نيلسون، اصدرت الوزارة بيانا اكدت فيه “ان الولايات المتحدة الاميركية تشيد بجهود البنك المركزي العراقي بشأن إصلاحات القطاع المصرفي فضلا عن الالتزام بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وان وكيل الوزارة نيلسون رحب بتعامل المحافظ العلاق مع هذه القضايا، مشيرا إلى التعاون والشراكة الطويلة الأمد بين وزارة الخزانة والبنك المركزي العراقي، لا سيما فيما يتعلق بمنع الجهات غير المشروعة والفاسدة من استغلال النظام المالي الدولي”.
وتشير بعض الاوساط السياسية ووسائل الاعلام العالمية والعربية، الى ان زيارة نيلسون لتركيا ودول شرق اوسطية اخرى تستهدف تحذير البلدان والشركات من أنها قد تخسر التعامل مع أسواق دول مجموعة السبع إذا تعاملت مع كيانات خاضعة للقيود الأمريكية، في الوقت الذي تتخذ فيه واشنطن إجراءات صارمة تجاه المحاولات الروسية للتهرب من العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها مع أوكرانيا.
ولعل عودة ارتفاع الدينار مقابل الدولار بالتزامن مع اجتماعات اسطنبول، والكلام الصريح للخزانة الاميركية، يؤكد بما لايقبل الشك ان خيوط التحكم بالملف المالي العراقي بيد الولايات المتحدة، وهذا ما اكده واقر به عدد من كبار الساسة والبرلمانيين وخبراء المال والاقتصاد العراقيين، ورؤيتهم بأن الحل والمخرج للازمة المالية الراهنة يكمن في فتح حوار مفصل مع واشنطن.
وهذا ما اشار اليه بطريقة او بأخرى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال احاديث وتصريحات له تناول فيها ابعاد الازمة وخلفياتها وسبل معالجتها. ولاشك ان اجتماعات محافظ البنك المركزي العراقي مع كبار المسؤولين الماليين الاميركان في اسطنبول، ومن ثم الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية العراقي فؤاد حسين للولايات المتحدة الاميركية، كلها تستهدف تهيئة الظروف والاجواء لزيارة السوداني لواشنطن، التي لايراد القيام بها قبل حسم الاشكاليات وحلحلة الامور بما يضمن ان تكون مثمرة ومفيدة لا استعراضية واعلامية فقط.
الى جانب ذلك، فان الشارع العراقي القلق جدا من هذه الهزات العنيفة، ومايمكن ان تفرزه من مشاكل وازمات حياتية اضافية تلقي بظلالها على فئات وشرائح اجتماعية عديدة، بات يتحدث بشكل واضح بأن الازمة مصدرها الاساسي هو الولايات المتحدة الاميركية، وكذلك فان الحل يكمن لديها.
لا شك انه اذا كانت مفاتيح الحل بيد واشنطن، فهي بشكل او باخر مصدر افتعال واختلاق الازمة، علما ان جذورها وخلفياتها لاترتبط بالشهور والاسابيع القلائل الماضية، بل تعود الى اعوام سابقة، والادق هو انها بدأت مع الغزو والاحتلال الاميركي في ربيع عام 2003، وبمرور الزمن تفاقمت واتسعت، ناهيك عن ان واشنطن لم تجد في السابق مصلحة بأثارتها، كما هو الحال بالنسبة للمرحلة الراهنة، اذ من غير المستبعد ان تكون قد ارادتها ورقة لتشديد الضغط على خصومها واعدائها، وفي مقدمتهم الجمهورية الاسلامية الايرانية ومن يتحالف معها ويدعمها وتدعمه، وكذلك روسيا التي اصبحت تشكل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة وعموم المنظومة الغربية، لاسيما بعد اندلاع حربها مع اوكرانيا العام الماضي.
من الطبيعي جدا ان تتوجه بعض اصابع الاتهام الى الولايات المتحدة الاميركية، لانها ومنذ الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، باتت تتحكم بمختلف مفاصل الدولة العراقية، وخصوصا المالية والاقتصادية منها، ولعل ابرز واوضح دليل على ذلك، هو انه منذ عشرين عاما، تودع عائدات النفط العراقي في بنك الاحتياطي الفيدرالي الاميركي ضمن حساب خاص اطلق عليه صندوق تنمية العراق (DFI)، وفقا لقرار مجلس الامن الدولي المرقم 1483 والصادر في الثاني والعشرين من ايار-مايو 2003، تدفع منه التعويضات المستحقة لدولة الكويت، وعموم التحويلات والانفاقات المالية منه تخضع لاشراف ورقابة الاحتياطي الفيدرالي.
قبل حوالي عشرة اعوام او اكثر، ارتفعت اصوات شعبية وبرلمانية تطالب بتحرير الاموال العراقية وانهاء الهيمنة الاميركية عليها، الا ان جملة من التجاذبات والاشكاليات السياسية والفنية حالت دون ذلك، رغم اعلان الرئيس الاميركي الاسبق باراك اوباما نيته رفع الحصانة عن صندوق تنمية العراق في ذلك الحين.
ومثلما ظل الملف الامني العراقي خاضعا ومرتهنا لحسابات واشنطن السياسية، فأن الملف المالي هو الاخر بقي كذلك، ولم تكن الاخيرة بعيدة عن الصعود المفاجيء للدولار، وهذا ما كشفه بعض البرلمانيين وخبراء المال والاقتصاد، بقولهم وتأكيدهم “ان صعود الدولار هذه الأيام هو بسبب إيقاف تحويل استحقاق العراق من الدولار من قبل الفيدرالي الأميركي لغرض الابتزاز السياسي والتفاهم”. هذا في الوقت الذي اصدر البنك المركزي قرارا يقضي بمنع اربعة مصارف اهلية من التعامل بالدولار لاغراض تدقيقية، وهي مصرف الأنصاري الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف القابض الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف آسيا العراق الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار.
هناك حقيقة مهمة وجوهرية لابد من التوقف عندها طويلا، الا وهي ان التركيز على انهاء الوجود العسكري الاميركي في العراق، واعتباره مقياسا ومعيارا لاستعادة السيادة الوطنية الكاملة، يعد خطأ فادحا وكبيرا. اذ ما جدوى خروج خمسة الاف جندي اميركي او اكثر او اقل من ذلك، من العراق واستقرارهم وتمركزهم قريبا منه، في الكويت او الاردن او قطر او البحرين او السعودية، فيما تبقى اموال العراق وثرواته القومية تحت سلطة وسطوة وهيمنة واشنطن، تتصرف بها كيفما تشاء، وتحول منها للعراق متى ما ارادت وكيفما ارادت!.
قد تنتهي الازمة الراهنة، وتعود الامور الى ما كانت عليه قبل اشهر، بيد ان اصلها وجذرها سيبقى قائما، لان كل الخيوط بيد اصحاب القرار في واشنطن لا بيد العراقيين انفسهم، وسوف تسير الامور وفق ما تخطط وتريد الخزانة الاميركية، وعلى البنك المركزي العراقي ان يعمل وفقا لرؤيتها وتوجهها حتى لايصطدم بها ويتقاطع معها.
تحرير الاقتصاد العراقي بكل مفاصله من الهيمنة الاميركية هو المدخل الرئيسي والحقيقي لنيل السيادة الوطنية الكاملة، وينبغي ان تنجز هذه المهمة بالتوازي مع مهمة انهاء الوجود العسكري الاميركي، وربما حتى قبلها. وبدون ذلك ستتفاقم الازمات وتستفحل المشكلات وتضيع الحلول والمعالجات.