مقالات

فن إتقان الحياة

كتب رياض الفرطوسي

يبدو أننا جئنا إلى الدنيا محمّلين بوصايا أكثر مما جئنا محمّلين بأحلام. منذ الخطوة الأولى التي نضعها على أرض الطفولة، يبدأ المجتمع بتوزيع الأدوار علينا كما توزّع المعلمة الكراسات في أول يوم دراسي: هذا سيكون مثل أبيه، وتلك على خطى أمها، وذلك نسخة أخرى من العائلة الممتدة التي تنظر إلى الفرد كما لو أنه مشروع مستقبلي لضمان استمرار المألوف. كل شيء مُعدّ سلفاً ، حتى ردود أفعالنا؛ نكبر لنكتشف أن الحياة التي نحياها ليست بالضرورة الحياة التي نريدها، وأن أعماراً طويلة تضيع ونحن نمثّل على الآخرين، ونتظاهر بأننا بخير، وأن كل شيء على ما يرام، بينما شيء في الداخل ينهار ببطء، كجدار رطب يذوب تدريجياً دون أن يراه أحد.

نحيا في بيئة تتقن تحويل البديهي إلى حدث استثنائي، وتستطيع بإتقان تام أن تجعل الفرح فعلاً مريباً، والاختلاف جرماً، والحرية خطاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه. نحن أبناء معادلة اجتماعية صارمة تقول: (كن كما يريد الناس، لا كما تريد أنت). وحين يحاول المرء التمرد على هذه الجملة المقموعة، يكتشف أن المعركة ليست مع أفراد، بل مع منظومة كاملة، محكمة، ممتدة، متجذّرة في كل زاوية من زوايا الوعي واللاوعي. لذلك يتراجع كثيرون، ويستسلمون، ويعيشون حياة هادئة من الخارج، مضطربة من الداخل، كمن يبتسم أمام الكاميرا بينما تنهشه الوحدة.

الغريب أننا نحب الحياة، لكننا لا نعرف كيف نقترب منها. نقف أمامها كما يقف غريبٌ أمام نافذة مطعم فاخر: يشتهي، لكنه لا يجرؤ على الدخول. نحب الضوء لكن نتعايش مع العتمة، نحب البحر لكن نخشى أن تمرغ الأمواج ملابسنا، نحب الضحك لكن نخاف من أن يظن الناس بنا خفّة. كل شيء لدينا يخضع لمراقبة غير معلنة، عين واسعة لا اسم لها، لكنها تحدد شكل يومنا وتضبط حركتنا، وتراقب قلوبنا قبل سلوكنا. هذه العين ليست شخصاً، بل جماعة كاملة تتربص بالانحرافات عن المألوف كما لو أنها حارسة معبد قديم يحظر دخول الهواء الجديد.

ولأن المجتمع يملك كل تلك القدرة الخارقة على ضبط النفس البشرية، ينتهي بنا الأمر إلى اختزال السعادة في وصفة واحدة، تشبه تلك الوصفات الملصقة على عبوات الطعام: خطوات جاهزة، السعادة تُصنع بهذه الطريقة فقط. عليك بوظيفة آمنة، ثم زواج تقليدي، ثم أبناء بلا مفاجآت، ثم حياة تشبه ملايين الحيوات المتكررة. تبدو السعادة في عيون الناس طقساً يُمارَس لا شعوراً داخلياً، مشروعاً اجتماعياً لا علاقة له بالروح. قليلون فقط يسألون أنفسهم: هل أرغب بالفعل بهذه الحياة؟ هل هذا الدرب يشبهني؟ هل هذا الحلم حلمي حقاً ؟

إنسان لا يقرأ، ولا يسافر، ولا يناقش، ولا يشك، ولا يغوص في داخله ليستكشف رغباته، كيف سيفهم السعادة؟ كيف سيعرف شكلها إن لم يمنح نفسه فرصة النظر إلى العالم بعينيه هو، لا بعين الجماعة؟ الإنسان الذي يخاف أن يُخطئ سيصبح عبداً لعيون الآخرين؛ يخاف أن يثور، يخاف أن يُحب، يخاف أن يمشي بشغف، يخاف حتى من مشاعره التي يفترض أنها أكثر شيء يملكه ملكية مطلقة.

والجسد كذلك يصبح سجلاً مفتوحاً للناس، يُحاسَب على ما يلبس، وما يأكل، وكيف يتحرك، ومتى يضحك، ومن يجلس معه. حتى ممارسة رياضة بسيطة قد تُعدّ خروجاً على السمت الاجتماعي. وإن ابتسمت لشخص غريب اتُّهمت بعدم الوقار، وإن ركضت اعتقدوا أنك تهرب من خطيئة، وإن ضحكت بحرارة قالوا: (ما هكذا يضحك الكبار). نعيش حياتنا كأننا موظفون في شركة ضخمة بلا مدير، لكن لكل موظف فيها الحق في تقييمك.

العقل بدوره ضحية صامتة في هذا المشهد. يُراد له أن يبقى راضياً بما سمعه، مستسلماً لما تلقاه، خائفاً من السؤال. نكرر التاريخ دون أن نعيد فهمه، ونتوارث الموروث دون أن نحاكمه، ونعيش في دوائر مغلقة تبتلع الأجيال واحداً تلو الآخر. لا تغيير يُصنع، فقط إعادة إنتاج بلا نهاية. ثلاثُ نسخ من العائلة ذاتها، تتعاقب كالأفلام القديمة التي تُعاد بثّها لأن لا أحد يجرؤ على إنتاج فيلم جديد.

ومع ذلك، ثمة شيء صغير يمكنه أن يفتح الباب نحو حياة أخرى؛ أفعال تبدو بسيطة لكنها جوهرية: أن تمشي ببطء في الشارع دون أن تُسرع خوفاً من نظرات تتفحص خطواتك. أن تضحك حين يفيض قلبك، دون أن تقلق من أن تصطدم ضحكتك بوجه عبوس. أن تمسك يد من تحب لأن دفء اللحظة أهم من حكمة المجتمع الباردة. أن تأكل في مكان عام وتستمتع بالطعام لا بصورتك في أعين المارة. أن تقول كلمة طيبة لعامل نظافة، أو بائع متعب، لأن الإنسانية ليست طقساً ولا شعاراً. أن تلعب كرة مع أطفالك في مساحة مفتوحة لأن اللعب ليس عيباً، بل عودة قصيرة إلى ما هو حقيقي فينا. هذه التفاصيل الصغيرة ليست (تحرراً) كما يسميه البعض، بل بداية حياة.

وحين ظهرت الاحتجاجات التي ملأت شوارع العرب ( ما يسمى بالربيع العربي ) قبل سنوات، بدا لبعض الناس أنها الموعد الذي طال انتظاره. ظنوا أن الباب سيفتح أخيراً، وأن الهواء سيدخل البيوت المغلقة. لكن الحقيقة أن أغلب ما جرى كان حالة غضب، وليست رؤية، انفعالًا عادلًا بلا مشروع عادل، صرخة بلا خطة. خرج الناس لأن القهر ثقيل، ولأن الحياة كانت تخنق، لكنهم لم يحملوا تصوراً عما بعد. لم يكن هناك خريطة، ولا بديل جاهز، ولا وعي فردي يسمح بصناعة مستقبل جديد. لذلك انجرفت تلك الحركات—بشكل طبيعي ومتوقع—نحو أول نفق جاهز: البُنى القديمة نفسها، الطائفية، الحزبية، المظلّات التي تعرف كيف تلتهم الغضب حين لا يجد طريقاً واضحاً . لم تكن تلك (ثورات) لأن الثورة تحتاج عقلًا قبل أن تحتاج غضباً، رؤية قبل أن تحتاج صوتاً، وعياً فردياً قبل وعي الجماعة.

والآن، بعد كل ما حدث، يبدو أن درس الحياة الحقيقي يبدأ من الداخل، لا من الشارع. يبدأ حين يفهم المرء أنه بحاجة إلى ثورة صغيرة داخل نفسه قبل أن يحلم بتغيير العالم. ثورة على الخوف، على الوراثة العمياء، على الصوت الذي يُذكّره كل يوم بأنه مراقَب. ثورة على التحفّظ الزائد، وعلى الحياة التي تُقاس بنظرات الآخرين لا بنبض القلب. ثورة تُعيد الإنسان إلى نفسه، وتعيد نفسه إليه.

ربما يكون إتقان الحياة هو القدرة على العيش بخفة، دون أن تنشغل كثيراً بما يظنه الناس عنك. أن تخلق سلامك الداخلي بعيداً عن الضوضاء. أن تصنع سعادتك بيديك، دون قائمة شروط مسبقة. أن تفهم أخيراً أن حياتك ملكك، وأنك لست مطالباً بأن تكون امتداداً لأحد، ولا نسخة من أحد، ولا ظلًا لأحد. أن تعرف أن الحياة لا تُؤخذ كاملة دفعة واحدة، بل تُلتقط كما تُلتقط الثمار الناضجة: واحدة تلو الأخرى، بلطف، وبوعي، وببهجة خفيفة.

الحياة ليست هناك، في مكان بعيد، ولا تنتظرنا خلف حدود مجهولة. هي هنا، بين أيدينا، في اللحظة الصغيرة التي نختار أن نكون فيها أنفسنا. في الشجاعة اللازمة لقول (لا) لما لا يشبهنا، و(نعم) لما يفتح نافذة الروح. الحياة ليست مشروعاً ضخماً نؤجله، بل ممارسة يومية تشبه ترتيب سريرك، وسقاية نبتتك، وتسامحك مع نفسك، وابتسامتك حين تقابل الصباح بلا درع ثقيل.

فن إتقان الحياة ليس درساً نظرياً، بل مهارة تتكون من مئة خطوة صغيرة، نمارسها حتى نصير قادرين على أن نعيش بلا خوف، بلا قناع، بلا أعراف تسجن القلب قبل الجسد. وعندها فقط ندرك أن الحياة لم تكن تكرهنا، بل كانت تنتظر أن نقترب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى