
لم يعد يخفى على أي متابع للشأن العراقي أن جزءًا من المشهد الإعلامي، الذي كان يُفترض أن يشكّل رافعة للوعي الجمعي ورقيباً على السلطة، قد فقد بوصلته المهنية وانزلق إلى منحدر الإثارة السطحية وترويج الخطاب الموجَّه. ومن بين هذه المنصات، تبرز صحيفة المدى التي طالما سُوِّقت كمنبر ثقافي وصحفي رصين، لكنها اليوم تكاد تتحول إلى أداة للشعبوية والتهييج النفسي، أقرب في أدائها إلى خطابات الدجل الإعلامي التي يمثلها “أبو علي الشيباني”، منها إلى الصحافة الحقيقية القائمة على الاستقصاء والتحليل المتوازن والبحث عن الحقيقة.
إن خطورة هذا التحول لا تكمن في مجرد فقدان مؤسسة إعلامية لمصداقيتها، بل في انعكاساته على الرأي العام العراقي، حيث تُزرع الشكوك وتُغذى الأزمات النفسية لدى المواطن البسيط، بدل أن تُقدَّم له المعلومة الدقيقة والتحليل الرصين الذي يساعده على فهم الواقع واتخاذ الموقف. بهذا المعنى، تصبح الصحافة المأجورة جزءاً من المشكلة، لا جزءًا من الحل، بل أداة إضافية لإرباك المشهد السياسي وتضليل الوعي الجمعي.
تحريف الحقائق حول الوفد العراقي
التقرير الذي نشرته الصحيفة مؤخراً حول الوفد العراقي إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، نموذج صارخ على غياب المهنية. إذ ادّعى أن الوفد كان ممثلاً عن الفصائل المسلحة وهيمنة إيرانية، ناقلاً تصريحات السياسي المفلس إعلامياً وسياسياً مثال الآلوسي، الذي اعتاد منذ سنوات استثمار أي منبر إعلامي لتصفية حساباته مع النظام السياسي ومع إيران، باعتباره موالي الى اسرائيل علناً، دون أن يقدم أدلة أو معطيات حقيقية.
الحقيقة أن الوفد الذي ترأسه رئيس الجمهورية ضم أكثر من أربعين شخصية، غالبيتهم العظمى من الأكراد، ولم يكن بينهم سوى أربعة من العرب، ولم يكن لأي منهم علاقة بـ”الإطار التنسيقي”. فكيف تتحول معادلة بهذا الشكل إلى “وفد إيراني”؟ بل الأدهى، أن بعض الأسماء المشاركة مثل قوباد طالباني تُطرح حولها أسئلة جدية، بأي صفة رسمية يحضر مؤتمرات الأمم المتحدة؟
المدى: ترويج لمشروع خارجي
الأخطر في تقرير المدى أنه تبنّى بالكامل خطاب الآلوسي، وربطه بمشروع أمريكي معلن منذ 2003، وتقزيم السيادة العراقية وربطها بالمحاور الخارجية. فالولايات المتحدة هي التي أسست النظام السياسي في العراق وجاءت بـحكومة ما بعد 2003، وهي التي فتحت الطريق أمام تمدد النفوذ الإيراني، كما سلّمت سوريا إلى الجولاني. واليوم، يحاول الإعلام المموّل إعادة إنتاج رواية زائفة، تحميل القوى السياسية العراقية وحدها المسؤولية، والتنصل من الدور الأمريكي الكارثي في صناعة كل هذه المعادلات.
إذا كانت واشنطن كما يروّج التقرير ترفض استقبال حكومة الإطار، فكيف تفسَّر أنها هي من هندست هذا النظام منذ البداية، وفتحت الطريق لإيران لتملأ الفراغ؟ أليس هذا تناقضاً مقصوداً لتبرئة اليد الأمريكية من جريمة الغزو وإعادة تشكيل الدولة العراقية على أسس هشة وطائفية؟
أزمة المدى: خطاب عدمي لا صحافة
المدى لم تكتفِ بعرض تصريح سياسي مفلس، بل ضخّمته ومررته كـتحليل استقصائي، بينما هو مجرد كلام مقاهي لا يصمد أمام أي تمحيص. الصحافة الرصينة تبحث في الوثائق والمعطيات، أما الصحافة المأجورة فتكتفي باستضافة من فقد رصيده السياسي وتقديمه كمصدر مستقل.
إن أخطر ما تفعله المؤسسات الاعلامية والصحفية، مثل هذا الخطاب أنه يحاول زعزعة ثقة المواطن العراقي بنفسه وبمؤسساته، عبر تصوير الدولة كـ”أداة بيد إيران” أو “رهينة للفصائل”، متجاهلًا أن هذه الدولة نفسها قامت على أساس حكومة منتخبة وبرلمان يمثل الشعب، وأحزاب وكيانات سياسية وُلدت من رحم المجتمع العراقي، سواء التقليدية منها أو المدنية الجديدة، أما البديل المطروح حسب ما يطرحه البعض، ناقصي الضمير فهو أرهابي أمريكي – صهيوني بالكامل لا وطني مستقل.
ومن خلال متابعتنا لما تطرحه من أخبار وتقارير صحفية يومية، ماهي إلا تسويق سياسي مأجور، هدفه ضرب المزاج الشعبي، وتشويه صورة العراق في الخارج، وتهيئة الأرضية لتدخلات خارجية. وإن تبنيها هذا الخطاب، أرادات أن تخلى عن دورها كمنبر إعلامي وطني، لتتحول إلى أداة ضمن ماكينة الدعاية الإقليمية والدولية، تمارس التحريض وتعيد تدوير الأكاذيب، وتضع نفسها في خانة منابر الإثارة لا الصحافة الحرة.