مقالات

البناة الحقيقيون

كتب رياض الفرطوسي

حين يُطرح سؤال: من يصنع الأمم؟ تتجه الأنظار غالباً إلى الساسة والقادة العسكريين، لأنهم يظهرون في الواجهة، ولأن حضورهم المباشر في لحظات التحول التاريخي يغري الناس بنسب كل الفضل إليهم. لكن نظرة أعمق إلى مسار التاريخ تكشف أن السياسيين ليسوا سوى واجهة، أما المادة الخام لبناء الدول فتصنعها العقول: العلماء، المفكرون، المصلحون، والمثقفون.

فلنأخذ الولايات المتحدة مثلاً. واشنطن كان قائداً عسكرياً بارزاً، لكنه ما كان ليصبح “مؤسس أمة” لولا أن عصر التنوير سبق تجربته وفتح أمامه ولرفاقه مثل جيفرسون وآدامز فضاءً من الأفكار حول الحرية، والعقد الاجتماعي، وسيادة القانون. دستور الولايات المتحدة لم يكن اختراعاً من فراغ، بل صياغة سياسية لفلسفات سبق أن كتبها فلاسفة أوروبيون كجون لوك وروسو ومونتسكيو. أي أن القائد ترجم أفكار المفكرين إلى مؤسسات.

والأمر نفسه في روسيا: بطرس الأكبر يُحتفى به كإمبراطور مؤسس، لكنه لم يُدخل روسيا إلى عصر الدولة الحديثة إلا بفضل استيعابه لمكتشفات العلم الأوروبي في الملاحة والهندسة والإدارة. لقد استدعى الخبراء والمهندسين، وبنى على معارفهم، فكان الإصلاح مشروع عقلٍ قبل أن يكون مشروع قوة.

وفي تركيا الحديثة، يُنسب التحول إلى مصطفى كمال أتاتورك. لكن ما يغيب عن الصورة أن حركات الإصلاح الفكري العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر – من “التنظيمات” إلى “جمعية الاتحاد والترقي” – مهدت الأرضية الفكرية التي جعلت مشروع الجمهورية ممكناً. لقد كان أتاتورك محصلة لمسار فكري طويل، أكثر مما كان بداية له.

إذاً، الفارق بين السياسي والمفكر أن الأول يملك سلطة التنفيذ، بينما الثاني يملك سلطة الرؤية. وإذا غابت الرؤية، تحوّل التنفيذ إلى تسلّط. ومن هنا نفهم لماذا تنهض دول حين يتكامل السياسي مع المفكر، ولماذا تسقط حين تُقصى العقول.

التجربة العراقية مثال حي. مؤسسو الدولة عام 1921 امتلكوا وعياً سياسياً وثقافياً نابعاً من خبرة إدارية وعسكرية وقانونية، مكنتهم من بناء مؤسسات ناشئة رغم التحديات. لكن بعد عقود، في زمن الاستبداد،في العهد المباد، عهد الطاغية صدام، حدث العكس تماماً. جرى تهميش العلماء والمثقفين وأساتذة الجامعات لصالح الولاء الشخصي، وتحولت المؤسسات الثقافية والفكرية إلى واجهات خاوية يترأسها أبناء السلطة والمقرّبون منها، ممن لا يحملون من الرصيد سوى القسوة أو الانتهازية. بل إن النظام عمد إلى استبدال الكفاءات الوطنية بعناصر هامشية، وأصحاب سوابق، ونواب عرفاء تحولوا إلى أمراء وزعماء يديرون المشهد. وبذلك انقطع الجسر بين الدولة وبين عقول أبنائها.

من يتأمل المشهد العالمي اليوم يلاحظ أن الأمم التي صمدت في وجه التحولات الكبرى هي تلك التي استثمرت في المعرفة: اليابان نهضت بعد الحرب العالمية الثانية لا بفضل جنرال عسكري، بل بفضل علماء واقتصاديين ومفكرين أعادوا صياغة منظومة التعليم والاقتصاد. كوريا الجنوبية تحولت من بلد فقير في الستينيات إلى قوة تكنولوجية اليوم لأنها جعلت الجامعات ومراكز البحث العمود الفقري للتنمية.

الخلاصة أن السياسي قد يفتح الطريق، لكنه لا يستطيع أن يشيده وحده. البناء الحقيقي تصنعه العقول. وحين يغيب العلماء والمفكرون عن قلب مشروع الدولة، تتحول السلطة إلى هيكل فارغ مهما بدا قوياً في لحظته. أما حين تتكامل السياسة مع الفكر، عندها فقط يولد مشروع وطني يملك القدرة على الاستمرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى