* تقديم عن التصوف :
الإمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – متعدد الجوانب الخيّرات النافعات للأمة الإسلامية ؛ فهو رجل سياسة ومرجع ديني أعظم ، قاد ثورة ليس لها ند ضد أعتى الأنظمة المتعاونة مع الصهيونية والإمبريالية ، ثم هو شاعر كبير ينتمي للمدرسة الروحية الرمزية الصوفية العرفانية ، وهو موضوع بحثنا .
وقبل أن نكتب عن الحالة العرفانية للإمام الخميني – قدس الله تعالى سره – نكتب عن التصوف وتعريفاته.
التصوف هو طريقة من طرائق التفكير والعيش عيش الفكر عيشاً ذاتيّاً يقوم على هذا العيش التالي وعلى إدراك باطن الحقائق إلى جانب ظاهر الحقائق وعيشها بطريقة روحانية وبطريقة تخاطب هذا الباطن ذلك هو المتصوف … إن ما يمكن أن نقول مثلا عن فران صانع الخبز أنه متصوف في عمله … مثلا إذا كان يُمسك الرغيف العجين ثم يطويه بحنانٍ ومحبةٍ وعشقٍ ويرمي به بهدوءٍ إلى النار كأنما هذا الرغيف يحترق بنار قلبه وليس بنار الفرن ، ثم يأخذه منه وكأنما يخلصه من هذا اللهب المشتعل في ذاته ثم يعطيه إلى الزبون ويقول له بالعافية ويأخذ منه الثمن وهو ينظر إليها ويضعها في الدرج دون أن يتحسسها أو ينظر إليها أو يحسبها أو يعدها … فهذا عنده مشرب صوفي يعيش حياته بطريقة صوفية ، فيما الآخر يمكن أن يُمسك الرغيف فيطويه بقوة ويدفعه إلى النار كأنما يريد أن يحرق ما تبقى من العجين دفعة واحدة ، ثم عندما تعطيه الثمن يأخذها وينظر إليها ويعدها جيدا ويفتح الدرج ويتأمل ماله ويضعه ويدفع بالرغيف إليه … إن هذا لا يعيش صنعته صناعة صوفية ، فالصوفي هو هذا النمط .
طبعا في الفلسفة نشأ هذا الفكر باعتبار أنه لا يكفي الدليل العقلي ؛ إنما لا بد له من عيش قلبه ، وأنه لا يكفي أن ندرك الحقيقة ولكن أن نعيش هذه الحقيقة ، فالمتصوف هو من يعيش الوحي كأنما أُنزل عليه كما تنزّل على قلب النبي محمد (ص) ؛ لأنه يشعر تماماً كأن هذه هي اللحظة التي تنزلت فيه عليه .
* تعريفات التصوف :
كثر الكلام عن تعريف التصوف الذي لم يقف بعد لا مؤرخ ولا فقيه ولا صوفي على تعريف محدد له ؛ وذلك بسبب ما مر به التصوف في الإسلام بمراحل متعددة ، وتواردت عليه ظروف مختلفة ، واتخذ تبعا لكل مرحلة تعريفا معينا ، ووفقا لما مر به من ظروف مختلفة كثرت تعريفاته ، وكل تعريف منها قد يشير إلى بعض جوانبه دون البعض الآخر[1] ، لما عرفه هذا العلم من اختلاف نظرة كل من أراد أن يقف على حقيقته .
وتبين الأدبيات المختصة بأن مصطلح (تصوف) هو من المصطلحات المعقدة وذات المعاني العميقة والمتشعبة حيث عرفه كل قوم من زاويتهم ، فقد أوصل الحافظ أبو نعيم المتوفى سنة 430 هـ في كتابه “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء” إلى ثمانمائة تعريف ، ذلك أن المؤلف كلما عرج على واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين إلا ويذكر أثناء ترجمته تعريفا للتصوف ، وكذلك فعل عبد الحق البادسي في كتابه ” المقصد الشريف ” ؛ فلا يعرِّف برجل من صلحاء الريف إلا ويذكر تعريفه للتصوف ، أمّا الشيخ زروق فقد أوصل هذه التعريفات إلى ألفين حيث يقول :” قد حد التصوف ورسم بوجوه نحو الألفين ترجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى”[2]…
وبالتالي ووسط هذا التنوع والاختلاف في تعريف التصوف فسنقدم مجمل التعاريف التي ذكرته مع الاختصار ؛ لأنه لو أردنا الوقوف فقط على تعريف التصوف ربما تطلب منا ذلك بحثا متعدد الأجزاء فقط لسردها ، كما أن هذا ليس محور بحثنا ، ولكن ما يتطلبه البحث من ضرورة أن نعرج على ذكره فإننا سنتطرق إليه .
ولعل أفضل أسلوب للتعرف على حقيقة ما يمثله التصوف هو التطرق إلى الدلالات التي يحملها ؛ ففي أصل مصطلحي (صوفي) و(متصوف) قد أشار إلى أن الصوفيين سموا بهذا الاسم للبسهـم الصـوف[3] ، أو سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة [صفة المسجد النبوي الشريف] الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن هناك طائفة تقول إنما سميت الصوفية لصفاء أسرارهم ونقاء آثارهم ، وحين سُئل أبو الحسن القناد عن معنى الصوفي قال بأنه مأخوذ من الصفاء وهو القيام لله – عز وجل – في كل وقت بشرط الوفاء ، إلا أنه أشار أيضا إلى أن أصل الكلمة هو لبس الصوف[4] ، وقال سهل بن عبد الله “الصوفي من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، وانقطع إلى الله من البشر ، واستوى عنده الذهب والمدر”[5] .
أما الشيخ السهروردي فيقول بأن “الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية ، لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس ، ويعينه على التصفية دوام افتقاره إلى مولاه ، فبدوام الافتقار يُنقى من الأكدار ، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته الناقدة وفر منها إلى ربه ، فبدوام تصفيته جمعيته ، وبحركة نفسه تفرقته وكدره ، فهو قائم بربه على نفسه ، وهذه القوامية لله على النفس هي التحقق بالتصوف”[6] …
إلا أن القشيري يرى أن تسمية صوفي ليس لها أصل لغوي عربي ؛ وإنما يرُجح أنها كاللقب ، وفي هذا يقول هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال رجل صوفي والجماعة صوفية ، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف وللجماعة المتصوفة ، وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق والأظهر فيه انه كاللقب .. فأما قول من قال انه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما قال يتقمص إذا لبس القميص فذلك وجه ، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف ، ومن قال أنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي ، ومن قال أنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد من مقتضى اللغة ، وقوله أنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى فالمعنى صحيح لكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف ، ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق[7] …
من الملاحظ أن الغالبية العظمى من التفسيرات التي جاء بها المتصوفون أنفسهم في أصل كلمتي صوفي ومتصوف هدف أساسي في توضيح دلالات هاتين الكلمتين لا تفسير أصلهما اللغوي ، وبالتالي فقد وصف أصحاب التصوف بأجمل الأوصاف وأقربها إلى المثالية .. فوصف الشيخ جنيد البغدادي سالك نهج التصوف بأنه مصدر خير مستمر في كل الأحوال ، وذلك بقوله :” الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح”[8] ، ويقول الشيخ أبو بكر الشبلي عن قرب الصوفي من الله عز وجل :” الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق”[9] ، وقال ذو النون المصري مشيرا إلى حال الدائم لسالكي طريق التصوف :” الصوفي من لا يتعبه طلب ولا يزعجه سلب ” ، وقال أيضا :” الصوفية آثروا الله تعالى على كل شيء فآثرهم على كل شيء فكان من إيثارهم إن اثروا علم الله على علم نفوسهم وإرادة الله على إرادة نفوسهم”[10]. وقال أبو تراب النخشبي :” الصوفي لا يكدره شيء ويصفو به كل شيء”[11] ، وفي تعريف للشيخ عبد الله أحمد بن عجيبة – ت. 1224هـ – حيث يقول : التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك الى حضرة ملك الملوك ، أو تصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل ، واشتقاقه – أي مصطلح التصوف – إما من الصفا لأن مداره على التصفية ، أو من الصفة لأنه اتصاف بالكمالات ، أو من صفة المسجد النبوي لأنهم متشبهون بأهل الصفة في التوجه والانقطاع ، أو من الصوف لأجل لباسهم الصوف تقللا من الدنيا وزهدا فيها ؛ لأنه كان لباس الأنبياء عليهم السلام[12] .
إن ” صوفي ومتصوف ” ليستا التسميتين الوحيدتين اللتين أطلقتا على أهل التصوف ؛ إذ عرف الصوفي بـ”السالك” أيضا إشارة إلى أن التصوف هو السير على الطريق إلى الله عز وجل ، ولأن من صفات السالك على الطريق التجرد من كل علائق الدنيا سوى ما يقربه من الله عز وجل ، كما أطلقت عليه تسمية “الفقير” أيضا ، فالفقير هو الذي يعطي كل شيء في سبيل الله ولا يأخذه أحد سوى الله عز وجل ، ومن التسميات غير العربية التي أطلق على المتصوف هي تسمية “درويش” والتي تعني “العابد ” ، إلا أن التسمية الأكثر شيوعا في الوقت الحاضر هي “المريد” .
* العرفان :
هذا عن التصوف فماذا عن العرفان ؟
في البداية لا بد من التطرق والنظر في المذاهب إلى طرائق في التفكير وطرائق في التبصر والتأمل والحياة حتى نستطيع أن نفهم معنى العرفان ..
العرفان مشتق من المعرفة ، والمعرفة هنا روحية المصدر والاتجاه ، والعرفان مستمد من القرآن الكريم ، والروح تغمر جوانبه كلها.
إن فلاسفة التصوف الإسلامي – مثل محي الدين بن عربي والحلاج والبسطامي والجنيد وابن الفارض وذي النون المصري – استمدوا تصوفهم من عرفان الأئمة الاثني عشر (ع) وإن تسموا بالمتصوفة ، المهم هو أنهم راحوا يأخذون عن زهد أمير المؤمنين علي (ع) ، ثم ذهبوا في حالة الصفاء فكانوا متصوفة .
ونرى كيف كان هذه المرحلة العرفانية في تجربة وشعر الإمام الخميني ، وماذا تعني هذه المصطلحات الثلاث (العرفان والتصوف والفلسفة) ..
في البدء يجب القول إن الفلسفة هي بكل بساطة شكل من أشكال التفكير الإنساني يتميز بأنه يقدم تبريراً عقليّاً ، أي إن كل ما يسعى العقل إلى تبريره يمكن اعتباره من التفكير الفلسفي الميزة الأساسية التي جعلت هذا النظر من التفكير فلسفةً هي قيامها على التبرير العقلي وعن دليل عقلي ، وبالتالي دعا مؤرخو الفكر إلى اعتبار أن الفلسفة إنما تحققت في معجزة التفكير اليوناني ، فيما اعتُبرت النظريات وطرائق التفكير في مناطق وأمصار أخرى كمصر وبابل وبلاد ما بين النهرين من الحكمة وليست من الفلسفة ، والفارق بين الاثنين كما هو شائع أن الأول – التفكير الفلسفي – يستلزم التبرير العقلي فيما الحكمة تستلزم فقط أن نعرفها ونطيعها وننفذها ، ولا نقول على سبيل المثال هل عندما أريد أن اشرح معنى الحركة أو اشرح مفهوم بقاء النفس أو خلود النفس فأنا ملزم أن أقدم للمتلقي تبريراً عقليّاً فأقول : إن النفس روحانية وإن النفس خالدة أو أن النفس تختلف عن الجسد … فهذا من الفلسفة ، أمّا حينما أقول أطع أمك أو أطع أباك أو أحبهما فلست بحاجة إلى تقديم تبرير عقلي فالمرء يكفيه أن لا تكذب أو قل الحقيقة أو اصدق القول … إلخ فأنا لست ملزماً بتقديم تبرير عقلي ؛ فالإنسان يحب أمه ويحب أباه ، وبالتالي لسنا بحاجة إلى أن نقدم له الدليل على ضرورة هذه المحبة .. فتلك هي حالة المفهوم اليوناني ، طبعاً تطور الفكر اليوناني اخذ أبعادا عديدة وانقسم وتشعّب إلى مدارس عديدة ومن رحم هذه المدارس نشأ التصوف .. ولكن التصوف الإسلامي بمفهومه العرفاني يختلف كثيرا عن التصوف الإسلامي ، والأهم هو ما بين التصوف والعرفان ..
* ما بين التصوف والعرفان :
طبعا التصوف أخذ مدارس وتشعب إلى مفاهيم متعددة ، ونشأ من قلب هذه المفاهيم العرفان والعرفان هو شكل من أشكال هذا التصوف لكنه نحا جانب التأكيد على المسائل الروحية وعلى مبارزة عبادة الله سبحانه وتعالى أيضا وعلى الإدراك القلبي وعيش الحال عيشاً حقيقياً دون أن يدخل في متفرعات التصوف سواء كان تصوف الطرق أو تصوف الانكفاء أو الزهد بمعانيه المختلفة أو النسك أو غير ذلك .
فالعرفان هو تطور أساسي اجتمعت فيه الفلسفة مع التصوف في تطورات هذه الفلسفة عند المسلمين الشيعة وعند غيرهم وبشكل خاص في مراحل الفلسفة الإسلامية التي أعقبت ما يسمى مرحلة ابن رشد تطورت الفلسفة حتى وصلت إلى ابن رشد ، وعند ابن رشد تمت المحاولة الكبرى في صياغة اتفاق أو تواطؤ بين الفلسفة وبين الدين .
وكانت محاولة ابن رشد في الجمع بين الحكمة وبين الشريعة محاولة اختلف الباحثون في النظر إلى مستوى نجاحها بين قائل أنها فاسدة وقائل أنها ليست كذلك ثم بعد هذه المرحلة وكما يعتقد مؤرخو الفكر الفلسفي من أن الفلسفة قد تلقت ضربة قاسية في المشرق في العالم العربي والإسلامي وأن أي محاولة للجمع بين الدين والفلسفة هي محاولة فاشلة لأنه لا يمكن على الإطلاق مصالحة فرعون مع موسى ،
وبالتالي لا يمكن الخروج من هذه المحاولات اليائسة التي انتهت إلى الفشل على يد ابن رشد.
في الواقع إن محاولات ابن رشد إنما قامت على التوفيق بين الفلسفة بالمعنى الأرسطي (بين فلسفة أرسطو وليس أية فلسفة) وبين الدين ، المفهوم الرشدي أو المعنى الرشدي للفلسفة يربط محاولة التوفيق بين الفلسفة وبين الدين في طبيعة الفلسفة أو مفهوم الفلسفة أو ماهية الفلسفة أو التعريف الرشدي للفلسفة ، وبالتالي يمكن هنا التوفيق ، هذه الفلسفة نفسها انتقلت بعد ابن رشد لتصبح في تراثنا الفلسفي فلسفة إلهية والفلسفة الإلهية تطورت بشكل أساسي من مدرسة أصفهان الفلسفية ثم تطور علم الكلام على يد كبار من أمثال نصير الدين الطوسي وغيره والميرداماد والشيخ البهائي وهم أساتذة الملا صدرا وبعد ذلك تجمعت هذه المدرسة في مدرسة الملا صدرا في أصفهان ، وقد كانت نتاجاً لثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : كانت تمثله الفلسفة الأرسطية السينوية وصولاً إلى مؤثرات علم الكلام وفي التصوف والفلسفة .
الاتجاه الثاني : يمثله شهاب الدين السهروردي الذي استفاد من السينوية لكنها نحت منحى الإشراق والتي كانت غايتها استعادة أو إحياء حكمة فارس القديمة .
الاتجاه الثالث : تمثله مدرسة الملا صدرا وكانت مدرسة ابن عربي انتقلت بشكل أساسي من المغرب ومرت بمجموعة من المدارس الفلسفية وصولاً إلى تأثيرها على مدرسة أصفهان الفلسفية ، ومن مدرسة ابن عربي بالذات نشأت مجموعة من عباقرة الشعر الفارسي الذين تأثروا بشكل أساسي بمدرسة ابن عربي وكانوا متأثرين بالاتجاهات الصوفية التي كانت غائبة قبل المرحلة الصفوية ، حيث ازدهرت في إيران هذه الحركات إلى جانب ازدهار كبير للشعر الصوفي الذي كان موجود عند حافظ الشيرازي والعراقي وابن خير وابن النسائي وعند كثير من الشعراء منهم السيد حيدر الآملي فبرز هذا الأمر في الشعر الفارسي بالأخص عند جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وفي هذه المرحلة بالذات كان الشعب الفارسي فعلاً غني جداً لنشوء مدارس هي نتاج مجموعة من هذه الحركات يدرسها الإنسان في تطورات كيفية التحاق مدرسة ابن عربي في الفكر الفلسفي المعرفي[13].
* التصوف والعرفان عند الإمام الخميني :
نشأ العرفان من مدرسة أصفهان ومدرسة صدر المتألهين المتأثرة بالفكر الاشراقي للسهروردي وفلسفة ابن سينا وعرفان ابن عربي ، وهو ما يسمى بالعرفان الشيعي ؛ لأن العرفان في حركته الشعرية التي جاءت بعد الصدرائية كانت نقلة على المستوى العرفاني أولا وعلى المستوى الشعري ثانياً فلنفصل بين المدرسة التي كان فيها تأثيرات ابن عربي والسهروردي قوية ، والتي هي قبل مرحلة الملا صدرا وتأثيرات هذه المدرسة بعد الملا صدرا .
أين يقف الإمام الخميني في هذه التركيبة الفلسفية ؟
إن الإمام الخميني هو استمرار لمدرسة الملا صدرا الشيرازي ، ولكن في جذورها المتصلة اتصالاً وثيقاً بابن عربي أي أنه نفس مدرسة الملا صدرا التي استمرت بالصدرائية الجديدة من خلال تطورها ، فوصلت إلى عند الإمام ، ولكن هذه المدرسة بحد ذاتها عند الإمام هي مدرسة صدرائية تقوم على الفهم الفلسفي باعتبارها فلسفة قرآنية ترتكز إلى القرآن والى أحاديث الأئمة ثم هي فلسفة متأثرة بمدرسة التجليات لامتلاكها التصوف المعاملاتي والتصوف التجلياتي ، وهما مدرستان : واحدة للغزالي ، وأخرى لابن عربي ، وهي تندرج ضمن مدرسة ابن عربي وعلى المستوى الشعري تندرج في المرحلة الثانية التي تأثرت بمراحل الشعر الفارسي الذي تكلمنا عنه .
إن مكانة الإمام الخميني هي استمرار لفلسفته ولمدرسة العرفان الشيعي التي ازدهرت بعد الملا صدرا الشيرازي ، والتي لها صلات وثيقة بمحيي الدين بن عربي والتي كان واحداً من تجلياتها لمدرسة التجليات والتي ترتكز على الفلسفة وعلى القرآن الكريم وأحاديث الأئمة ، وبالتالي انفصلت عن الطرق الصوفية وعن حركات الطرق التي كانت موجودة في مرحلة ما قبل الصفويين نتيجة العلاقة بين التشيع والتصوف .
في المرحلة الثانية التي تلت الصوفية والثالثة التي عبرت عن نفسها بالشعر إذ كانت هذه المدرسة تكتب ، وكان للعارف فيها كتابات شعرية ونثرية وفلسفية ، وهناك شروح وتعليقات وما شابه ، واستطاع أن ينفذ إلى العبادات ودرس الآداب المعنوية للصلاة (باعتبارها الروحي الذي شرحته بالبداية على صورة الفران) وكيف يمكن أن يؤدي صلاته فيها بطريقة ملفتة بالتعلق بالله[14].
إن الإمام الخميني عبر عن نفسه في كتاباته بمجموعة أشكال من كتابة متون فلسفية ومتون عرفانية وكتب تعليقات وشروح ، ولعله آخر الشارحين لابن عربي وشرح الأسفار وقام بشروح على كتب عديدة وعلى الأدعية ودعاء السحر وهناك الآداب المعنوية للعبادات وشرح لمتون الأحاديث ، ثم كتب النص الشعري باعتباره شكل من أشكال التعبير العرفاني وشكل من أشكال الإفصاح العشقي ؛ لأن التجربة الوجدية أو تجربة العشق التي يعيشها العارف ويفصح عنها فتتجلى في ثلاث طرق : ميتافيزيقياً بواسطة نظرية فلسفية وشعرياً وبحركات أو ممارسات متعالية تعتمد بشكل أساسي على اللغة ، وهي أنماط من الإفصاحات ومعارف تبدأ بالزهد أو بالسفر أو بالرحلات أو بأشياء كثيرة ، فمثلاً ابن الرومي كان يفصح عنها بأشكال الرقص والحلقات التي كانت تحدث وهى مشهورة في تاريخ التصوف .
فإذا رجعنا إلى النص الصوفي نجده نصّاً أدبيّاً ؛ لأنه هو إفصاح مباشر عن حالة الوجد ، يعني عندما يفصح العارف يصدر عنه الإفصاح تلقائيّاً ، فهو يحكي حاله ويُنشد هذه الحال ويفصح عنها في شعره ، وهذا الإفصاح كان في الأساس أول الإفصاحات المباشرة ، وأهم الإفصاحات عن حالة العشق أو الوجد ، وإذا ما قارنا كل الإفصاحات الأخرى لبداية التصوف أو العرفان كانت إفصاحات مباشرة عُبّر عنها بشعر أو شطحات أو واردات أو مشاعر أو اشراقات ، فهناك الكثير من الكتابات الصغيرة يروي فيها أخبار الأخيار وحياتهم في إفصاحات معينة ثم جاءوا فيما بعد وبدأوا يقرؤونها ويشرحونها ويعلقون عليها ويقولون هذه نظرية فلان وهكذا .
أمّا الفيلسوف نفسه أو العارف في بعض الأحيان والى جانب هذه الكتابات أو اللمعات أو الاشراقات أو الواردات … إلخ ، كأن يكتب بحثاً فلسفيّاً مثل ابن سينا أو غيره ، والإمام الخميني كتب الاثنين معاً ، وكان كثير من العرفاء يعتبران صلب التجربة الوجدية عندهم موجود في الإفصاح الأدبي والحي والمباشر الذي يُفصح مباشرةً عن هذه التجربة أكثر منه في النظرية الميتافيزيقية ، ولذلك حتى ابن عربي وشارحوه ومريدوه لم يرغبوا في بناء نظرية ميتافيزيقية ، ولكن كل ما في الأمر يُفصح عن وجده ويحلل هذا الوجد ثم نأتي نحن ونفسره أو نعلله .
إن الإمام الخميني قد أفصح عما يمكن تسميتها عقائد عرفانية أو معتقدات أو نظريات أو آراء ميتافيزيقية تدخل بها عمق الإفصاح الوجدي ، وفي الإفصاح الوجدي تجد فيه تطابقا هائلا أكثر من أي شعر أخر بين حاله وإفصاحه الوجدي وإفصاحه الميتافيزيقي ، وإذا أردنا ذكر مثال على هذا القول يمكن الحديث عن الترجيعات والترجيعات في اللغة ، وهو ترداد القول ، وهى عند الإمام عدة هي[15] :
المرحلة الأولى : التقبل من القابلية والقبلة ، وهي عند المريد الذي يريد أن يتبع سلوكاً في طريقة العيش ، قد يكون قابليته أو تقبله أو قبلته .
والمرحلة الثانية : هي السر أو الشاهد أو المشهد ، وإن كل تقبل في اللغة هي الهمس والترنيمة والقول والصراخ ، وعندما يصل إلى الصراخ يصل إلى التعالي عن اللغة ، وكلما قدر العاشق في باب من أبواب العشق كلما صار إفصاحه أعلى وينتقل من الهمس إلى الترنيمة إلى القول إلى القول عالياً إلى الصراخ فان تُضبط شعرياً حركة العاشق في شعره وفي ترجيعه ، كما تُضبط في تطوره الميتافيزيقي مسألة هائلة ، بحيث يكتب شعرا بحالة الوجد المطلق ، فهو لا يضبط هذه الحالة إلا إذا كان عنده مرآة داخلية صافية تتلقى الأنوار والإلهامات ، وهي فاصل بينه وبين المعشوق فتصبح المرآة تعكس المعشوق وفي ذاته صورة المعشوق صورة صافية وواضحة ، فيعبر عن إفصاحه بهذا لا التناغم الذي لا نجده فعلاً عند أي شاعر آخر في القدر الذي نجده عند الإمام الخميني.
والمرحلة الثالثة : هي مسألة اللغة الرمزية عند الإمام ، لأن اللغة تستخدم الرموز ، وفي الشعر الصوفي استخدموا رموز الطبيعة والخمرة والمرأة .
أمّا في الشعر الصوفي الفارسي تحدثوا عن الرمز المعبر عنه بالدروشة ، مثلاً السكران ؛ فهذا لفظ ودليل على أن هذا الرجل شارب للخمر ، وإذا جاء ليخطب فتاة يقول له أبوها اذهب وفتش في مكان آخر ؛ لأنه لا قيم لديه ، وإذا ذهب إلى الشيخ فسوف يقيم عليه الحد ، والشرطي يوقفه عن قيادة السيارة .. إذن هذا صفة التحقيق بالنسبة إلى السكران ، فإذا جاء شخص وقال إنه سكران بحب فتاة مثلاً ، فيُأخذ السكر قيمة العاشق ، وإذا دخل مرحلة أخرى وقال إنه جزء من مجمع سُكارى فلم يعد متعلقاً بالسكر من عشق ليلي ، بل صار جزء من العشق … وهنا الغرام العام ، وهو شيء من الصوفية .
أمّا المرحلة الرابعة : فهي أعلى من ذلك ، فعندما يقول شاب مثلا : أنا أحب فتاة اسمها هند ، فهل ارتوى ؟! طبعاً ليس منا من يرتوي من كأس حب هند ؛ لأنه كلما شرب ازداد ظمأ ، باعتبار أنه عاشق لا يرتوي ، وفي النهاية يصبح عنده عدم ارتواء من حب هند ، وبالتالي سيؤدي به إلى السكر ، باعتبار الاستمرار في الشرب الذي سيؤدي إلى السكر ، فالشاب سكران بحب هند لعدم ارتوائه ، وبالتالي هذا المعنى الذي يلي الصحوة بعد السكر ، يصبح هناك معاني وقيم أخرى تختفي معها أية علاقة مع المفهوم الأول ، ومن هنا أصبح لفظ الدروشة لفظ تحسين وليس لفظ تحقير بحيث أخذ معاني وقيم جديدة ، هنا أخذوا هذا المعنى الرمزي في الرمز الصوفي ، وفي لغة الدروشة حيث استخدمه الإمام الخميني بشكل رائع ، وباستخدامه له لعب عليه في كل أبعاده ، فتشعر أن الإمام يأخذ اللفظ بتطوره ، وبالعودة إلى الشرب لأنه شيء لطيف ، فيقولون لابن عربي إن الري غير ممكن عند العاشق ، وعندما قالوا له ما هو نصيبنا نحن من ذلك ، فقال هذا نصيب مقسوم وحظنا منه نصيب مقسوم الري معدوم وحظنا منه نصيب مقسوم وعندها لن أصل إلى مرحلة السكر .
إن الإمام الخميني يستخدم هذه المسألة بشكل رائع حول لفظ الدروشة ، ويستخدم الإمام الأنا الأولى والثانية فهناك أناه … والانا الثانية ، ومن خلال الأنا الأولى الطبيعية ومقابلها أنا العاشق ، والأنا الأولى الظاهر ومقابلها الأنا الظاهر ، والأنا الأولى الصفات ومقابلها الأنا الظاهر ، فالإمام عندما يخاطب ملكا أو الإنسان العادي يقول أنا الآمر وأنا .. فيحكي بأناه ، أي الصفة العظيمة ، بينما عندما تصبح الأنا فقيرة أمام الله .. بينما في الأنا الأولى يصبح السكران المرشد والملك .. إذن تنقل الأنا بين مخاطبة المعشوق الأزلي وبين الأنا التي يمكن أن تراها في حياته ، لذلك فالإمام الخميني هنا يمكّن لنا أن نعرف الإمام الذي يبكي ويصلي الليل وأن يعشق عشقاً كبيراً وعنده مقامات عالية لكل الموجودات ، فهذه الأنا الرائعة والعاشقة والعارفة هي الأنا الشجاعة والمقدامة التي اشتغلت بالسياسة وقاومت فهزت عروش الطغاة ، لأنها أمام الله وفيها كل هذا المعنى ، أما في مواجهة الطغاة والذين يظلمون عيال الله وعشاق الله تصبح هذه الأنا قوية وقادرة ، والإمام استخدم أيضا الرمز الشعري مقابل رمز الدرويش ورمز المجنون عند ليلى.. وأخذ كل هذه المفاهيم من عشق ومصباح.. واخذ كل رموز الشعر الفارسي والعربي وكل الأساطير الدينية للشعر الفارسي وأعطى رموزا دينية جديدة ، وأخذ من قصص الأنبياء بشكل كبير وجمع كل هذه الرموز في معاني عالية وسامية لا يمكن أن ندركها إلا إذا قرأنا شعره بإمعان وكنا على مقامه .
* العرفان الصوفي في أدبيات فكر الإمام الخميني .. تطبيقات شعرية :
– أوّلاً : الأنا والأنت الرمزيتان في شعر الإمام الخميني :
يقول الدكتور سامي مكارم : ” في دراسة سابقه قارنت فيها بين الإمام الخميني والحلاّج[16] ذكرت أن الحلاّج – مع أنه نفى الأنا والأنت نفياً قاطعاً – لم يتخلّص في عباراته من الأنا والأنت .. تجبره ضرورة اللغة على ذكرها ، فقال في جمله ما قال : وحِّد واحدي بتوحيد صدقٍ ما إليه من السالك طُرقُ فأنا الحقّ حقَّ للحق حقُّ لابس ذاته فما ثَّم فرقُ[17] ، وتقرأ الإمام الخميني يعلّق على الحلاّج قائلاً: “خلصتُ من نفسي وقرعتُ طبل «أنا الحق» ومثلَ المنصور صرتُ شارياً رأس الصليب ” ، وقد كان قُدِّس سرّه أكثر حذراً من الحلاّج في استعمال ضمير المتكلم ؛ ذلك لأن رسالته التعليمية تضطرّه إلى الإفصاح في التحذير ، في حين أن الحلاّج لم يكن في هذا الموقع ، أو هو الأرجَحُ ؛ لأن الحلاّج كان بخلاف الإمام ، يقول بوحدة الشهود القائمة على وحدة الصفات لا وحدة الذات القائمة على وحدة بين اللا محدود والحدّ أو بين الحق ومظهر الحق أو بين الحق والخلق ، وهذا ما حدا بالإمام الخميني أن يقول في إحدى رباعياته ما تعريبه :
ما دمت ابن منصور تطوف حول أنا الحق
تثير الضجيج والهياج دون أن ترى جمال لحبيب[18]
فهذه “الأنا” التي في “أنا الحق” الحلاجية إنما توحي بالفصل بين اللا محدود والمحدود فصلاً ذاتياً ، وهي في نظر الإمام الخميني درجة دون درجة الوحدة الكلية ، ومَن يقل بها يكن في نظره ، قُدِّس سرّه ، على درجة من التوحيد لم تبلغ بسموّها أعلى الدرجات ؛ إذ هي ما تزال في حمى العبارة والعاطفة الهائجة التي تغلي في النفس وجداً ، وهي ما تزال على مسافة من التوحيد الحق مهما تكن هذه المسافة قربيه ، على حدّ تعبير النِّفَّري الذي يقول على لسان الله : ” وقال لي : القرب الذي تعرفه مسافة ، والبعد الذي تعرفه مسافة ، وأنا بقريب البعيد بلا مسافة ” .
وهكذا يكون الواصل إلى هذه المسافة – في مفهوم الإمام الخميني – ما يزال في حمى بكثرة ، ولم يبلغ الوحدة في الذات ، وحدة الوجود ؛ ذلك أن العارف الحق يفني كما عند الإمام الخميني فناءً كلياً فلا يعود موجوداً إلاّ الواحد الأحد ، ويتيقن العارف المتحقق أن لا شيء يوجد خارج ملكوت الحق ، استهلك المطلقُ اللا محدودُ عالَم النسبة ، لا شاهد ولا مشهود ، ولا مشهود بشاهدٍ أو بشهود ، لا موجود إلاّ الله الواحد الأحد ، استهلكت الأنوات والأنتيات بالـ(هو) .. ذلك هو الذي قصده الإمام الخميني عندما وصف مَن يبقى دائراً حول «أنا الحق» بأنه يثير الضجيج والهياج دون أن يرى جمال الحبيب ، والضجيج والهياج كثافة ، أما الرؤى – رؤية جمال الحبيب – فهي رؤية اللطافة للطافة .
وهو يواصل رباعيته الحادية والعشرين ليقول :
دُكّ كومسي جَبَل أنانّيتك حتى يتجلّى جماله من دون “أرني”
فلا وحدة في الحق – كما يقول – إلاّ إذا دككت جبل أنانيتك ، ودكّ جبل الأنانية هذا لا يتحمله إلاّ القلة من العارفين الذين عرجوا في معارج التحقق .. أمّا مَن دونهم فيدكّون دكّاً ويخرّون مصعوقين حتى ولو كان بعضهم من الأنبياء .
ألم يقل الله {ولَمّا جاءَ موسى لميقاتنا وكلَّمَهُ رَبُّهُ قال ربِّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكنِ انظر إلى الجبل فإنِ استقرَّ مكانه فسوف ترابي فلما تجلّى ربُّهُ للجبل جعلَهُ دكّاً وخرَّ موسى صعِقاً فلمّا أفاق قال سبحانك تُبتُ إليكَ وأنا أوَّلُ المؤمنين} ، وشرحها الإمام كما يلي : ” بل إنَّك إذا دككتَ جبل أنانيتك فربما كنتَ أَفضلَ من نبي الله موسى (ع) ؛ لأن جماله سبحانه وتعالى سيتجلّى لك قبل أن تقول له ودون أن تقول له (كما قال موسى): ربِّ أرني أنظر إليك ، وفي هذه الأنا الإمام الخميني في مجموعه غزلياته :
أترُك نفسَكَ حتى ولو كنتَ عاشقاً وَلهاً إذ لا حائل بينك وبينه غيرُك
وتحوي هذه المجموعة من شعر الحب العرفاني أبياتاً كثيرة في هذا المعنى منها قوله: إن هذا «الأنا والنحن» هو من العقل ، وهو عقال ، ففي جلوة السكارى لا يوجد أنا ونحن ، ولا يقصد الإمام إلى القول بذم الأنا في المطلق ، فالأنا التي تدفع الإنسان إلى المحبة والمعرفة والخير هي محمود ، بل واجبه ضرورية ، ذلك أنها تؤدي بالسالك إلى مقام التذلل والتضرع والحب والشوق والاعتراف بالعجز ونفي الاستقلالية ، فالإمام في شرح دعاء السحر يقول : “وأما إثبات الأنانية في مقام التذلل ، وإظهار الفقر ، فليس مذموماً ، بل ليس من إثبات الأنانية ، بل حفظ مقام العبودية والتوجّه إلى الفقر الفاقة[19] ، وهنا نرى أن هذه الأنا التي تعني التضرع والفقر وتنفي الاستقلال والاستغناء إنما تنفي الكره ، وتنكر الإقرار بأي وجود إلاّ وجود الله ، فلا غيريَّة له ، كل غيرية هي عدم ..
وهو في ذلك يخاطب الحق فيقول :
متى كنتَ في عيون العشاق خفيّاً متى يا حكيمي كنتَ منفصلاً عن الروح؟
إن طوفان حبّك اقتلع جَذر الوجود منى متى كنت منفصلاً عن النفس أيها الحبيب
كما يقول في رباعيه أخرى :
يومَ أمسيتُ عاشقاً لجمالك جُننِتُ بوجهك العديم المثال
رأيتُ أن لم يكن في العالَمين سواك فذُهلتُ عن نفسي وغرقتُ في كمالك
تماماً كما تغرق قطره الماء في البحر ، تفنى قطرّيتها الواهمة وتبقى حقيقتُها المائية
وتصبح هي البحر. تعود الأنا إلى الـ(هو) …
ويقول الإمام الخميني في كتابه «مصباح الهداية» :” فاعلم أن الذات الإلهية لَمّا كانت تامة فوق التمام ، بسيطة فوق البساطة ، فهي كل الأشياء بوجهٍ بسيك إجمالي منزّه عن قاطبة الكثرات الخارجية والخيالية والوهمية والعقلية ، فهي كل الأشياء ، وليس بشيء منها ” .
وهو يقول موضحاً هذه الوحدة :” إن الموجودات الخاصة في كل نشأة من النشآت ظهرت ، والأنوار المتعيّنة في كل مرتبه من المراتب برزت ، مستهلكاتٍ في الحضرة الإلهية … فإن المقيَّد ظهور المطلق بل عينُه والقيد أمر اعتباري ، والعالم هو التعيّن الكلّ ، فهو اعتبار وخيال في خيال عند الأحرار ، والوجود من صَقعِهِ وحضرته لا حُكمَ له بذاته ، فلابدّ للحكيم المتأّلِه أن يستهلك التعيّنات في الحضرة الأحديه” ويواصل الكلام فيقول : ” فإن قلتَ إن الله تعالى ظاهر في الأكوان ومتلبِّسُ بلباس الأعيان صدقت ، وإن قلتَ إنه تعالى مقدَّس عن العالمين صدقت»
ثم يقول : ” وأما الذي يشاهد الكثرة بلا احتجاب عن الوحدة ، ويرى الوحدة بلا غفلة عن الكثرة ، يُعطي كلَّ ذي حق حقَّه … فحَكَم تارة بأن الكثرة متحققة ، وتارة بأن الكره هي ظهور الوحدة كما قال المتحقق بالبرزخية الكبرى ، والفقير الكل على المولى والمرتقي بقاب قوسين أو أدنى المصطفى المرتضى المجتبى بلسان أحد الأئمة : لنا مع الله حالات هو هو ونحن نحن ، وهو نحن ونحن هو» .
إن وحدة الوجود نراها مبثوثه في غير كتاب من كتب آية الله روح الله الإمام الخميني ، ففي كتاب «المظاهر الرحمانية» ، وهو يضم رسائله العرفانية يقول : “فهو ظاهر ، وكل ظهور هو ظهورُ له سبحانه وتعالى ، ونحن بذاتنا حُجُبُ ، فأنانّيتنا هي التي تحجبنا”[20]
– ثانيا : الشعر العرفاني الصوفي :
إن الشعر هو حاجة جوهرية للتعبير عن الذات لا يرقى إليها النثر مهما أبدع ، ولا بدّ من وقفة مع بعض القصائد المختارة للإمام لكي ندرك مدى وصاله بالعرفان والتصوف الإمامي ، خاصة عندما يستخدم الرمز أو الرموز الكشفية ..
في قصيدة الإمام الخميني المؤرخة في آذار 1989(قبيل رحيله بقليل) يفتتح الإمام بهذه الأبيات [21]:
افتح الدن أمام السكارى
تخلّ عن عشاق الأهواء
وكالطفل الصبور في الكتّاب
تقبل مني رمز السّكر
في هذا المقطع الرباعي الذي يعبر عن أمرين معاً: كلاسيكي.
ويمكن القول إن الخمر هي القاسم المشترك الأعظم بين جميع شعراء العرفان ، فهي رمز الاتصال بالمطلق سبحانه لديهم ، وهي نشوة اللقاء والفناء في الحب ، ولا ننسى القصيدة الشهيرة لعمر بن الفارض[22]:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
وفي السياق فإن الفقهاء يعترضون على استخدام هذا الرمز كما وجدنا عند السيد فضل الله وكذلك استخدام شعر العرفان رمز المرأة كنموذج لاتجاه الهوى لا بديل عنه ، وبالعودة إلى الشعر ، فإن ما يدهشنا فيه هو امتلاك الإمام الخميني لفن تشكيل الصورة الشعرية الناضجة التي بدت في هذا البيت: (وكالطفل الصبور في الكتّاب) ..
وهنا نقارب الطفل البريء في هذا الشاعر الشيخ ، ولعلّ الطفولة البريئة تظل أقرب ما يكون إلى سرّ البدايات المتجهة بصفاء إلى الحياة بعيداً عن تعقيداتها ومآسيها.
في هذه القصيدة لا نلمس التزاماً مستمراً في الشكل الرباعي للشعر إلا في البداية ، ولكن الشاعر ألزم نفسه في ختام كل مقطع بخاتمة تدور حول كأس السكر لتصبح دماء الحبيب المطلق :
ارفع عن المحب كأس السكر
كأنما يتحول هذا الرمز (السكر) إلى حالة من العذاب الوجودي وليس النشوة المتولدة عن الخمر كما شهدنا في المقطع الأول ، ولنقرأ [23]:
أنا المفتون بجميل حبيبي
أنا الطليق من جنتي العالية
أنا من بغمزه من عيون ورديات الخدود
استغني عن دلال الحور العين
وبلسان بعيد عن كل لسان
أقول في محفل حساني المدللات
يا نقطة عطف سر الوجود
ارفع عن المحب كأس السكر
* استخدام الرموز :
يكتمل هنا رمز العرفان في شعر الإمام في هذه القصيدة باستخدام المرأة الجميلة رمزاً للعشق وصولاً إلى الله ، ومع ذلك فإن الرموز الصوفية لا يخلو منها مشهد : نقطة عطف سر الوجود ، الطليق من جنتي العالية.
ومن أشواق الشاعر في تشكيل صوره المعقدة المغرقة في الرمزية ، نكتشف نضجاً لغوياً وشعرياً يصل الذروة ، سيولد في الصورة الشعرية أو في التراكيب أو في استكناه المعاني عبر الكلمة وجماليتها.
إن الشطحة الصوفية في هذا المقطع تبدو من خلال هذين البيتين:
أنا بغمزه من ورديات الخدود استغني عن دلال الحور العين
ونحن نعتب على المترجم في استخدام كلمة (أستغني) التي يمكن استبدالها بأجمل منها ، فإن الأنثى المجسمة في تعبير ورديات الخدود ، والحور العين الدالة على جزاء الجنة الواضح تمكننا من الجزم بتداخل الرمز الديني في شعره مع الواقع الإنساني ، بل ويمكن لنا استيحاء المعنى أبعد من ذلك في تحليل الشعر العرفاني عندما نشهد أحياناً عودة الفقيه إلى واقعه في بعض الأبيات ، كما نرى في المقطع الرابع[24] :
إنك إن لم تكن لك خصال الدرويش
تمت من فراق ساحر فؤادك
إن الحانة ليست مكاناً للافتخار
إنها مكان للإثم وطأطأة الرأس
هنا نجد التقرير والمباشرة والبعد عن الرمز بكل وضوح أنها دعوة إلى الزهد الكامل إلى درجة الدروشة طريقة للاتصال بالله سبحانه ، وبالتوازي مع ذلك هناك هجوم غريب على الخمر والموضع الكافي الذي يقدمه (الحانة) ، هذا التداخل والتناقض ليس غريباً في شعر العرفان بكامله على أية حال.
هذه المباشرة والعود إلى مخاطب الخالق بالقرآن حتى يفارق الشاعر الرمز أو يوضح هذا الرمز بعيداً عن أي التباس نجدها في قصيدة :
خذ مني صحوي واجعلني ثملاً
أسكرني من خمره (ألسْتُ)
إن الباحث أمام الكثير من الأسئلة الغامضة في ما يقرأه ، فالشاعر يتوجه إلى الله طالباً منه الثمالة من خلال آية في القرآن اختارها وهي {ألست برأبكم قالوا بلى} ، ولكن لماذا اختار الشاعر (الثمالة) وهو الفقيه الصوفي الذي لم يتعاط الخمر أبداً ؟
وفي دعاء كميل نجد أن الإمام علي بن أبي طالب(ع) لم يستخدم هذه الرموز ، وظل تعبيره عن العشق الإلهي مباشراً في سبيل الوصول إلى أمرين اثنين ، هما سعادة الدنيا والآخرة ، ولا بديل عن ذلك ، أمّا سعادة الدنيا فهي تختزن لدى الإمام بمقولة الخير والحق وأداء الواجب بالتزام .
هذه الدقة في التعبير التي وجدناها لدى سيد العرفاء جانبها الإمام الخميني في شعره ، ذلك أن الشاعر فيه – في لحظات من الزمن – شرع لنفسه ما لا يجوز لغيره ، لهذا غلب عليه منطق الشعراء ، وهذا دليل واضح على ضياع الكثير من نظمه الذي ربما كان الأجمل .
* اختراق الحجب :
إن الأعماق هي غاية العارف الزاهد الباحث عن الحقيقة ، وإذا حدث وفارق ما توصلنا إليه من نتائج ظاهر التشريع أو الشريعة فإن ذلك لا يجيز للآخر اتهام العرفانيين بالخروج عن الإسلام وعن النص ، ومع ذلك فإننا نعود إلى البدايات حيث عزل المجتمع السياسي أو حاول جماعات الصوفية وحاربهم بشتى الأسلحة ، وكانوا في الواقع كما يقول التاريخ يشكلون جبهة المعارضة ضد السلطة الطاغية في إيران ، خاصة في القرن التاسع عشر .
لهذا يمكن اعتبار أن الإمام الخميني شكل حالة دفاعية ضد السلطة منذ العام 1963 فانحاز إلى العرفان واعتبر العلم والاهتمام القلبي من ثنايا الباحث والمصطلحات حجاباً في الطريق ، فهو أي العلم كالحجاب الغليظ يحجب السالك عن العرفان حيث أنوار الجلال والجمال ، تماماً كالأهواء والغايات الأنانية يجب تمزيقها بالترويض والتقوى ومناجاة الباري تعالى والانقطاع إليه ، ومع ذلك فإنه تمكن وببراعة من حل هذه الإشكالية وتلك إحدى أبرز الأسرار في الشخصية الإنسانية .
ويُختم في هذا المجال بأبيات من شعره التي يمكن أن تلخص كل معاني العشق الإلهي وباستخدام رمز الأنثى وبإصرار[25]:
حبكِ أقام منزلاً في قلبي المحطم اتضح أنه كان معروفاً ولكنه جعلني
غريباً عن هذا القلب
افتحي شفتيك كانفتاح الزهرة الفتية
وأفشي سر تلك النقطة التي جعلت عملي صعباً وقلبي مهموماً
إن العرفان عنده حالة من الحزن العميق الذي يفوق الفرح مثل قوله :
إن حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور من ساعة الميلاد
149 -أبو الوفا التفتازاني : مدخل إلى التصوف الإسلامي – دار الثقافة للنشر والتوزيع – القاهرة – الطبعة الثالثة ، بدون سنة الطبع ، ص 1
150- أحمد زروق : قواعد التصوف ، تقديم وتحقيق عبد المجيد خيالي ، نشر دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، الطبعة الأولى 2003م ، ص21
151- الطوسي ( أبو نصر السراج ) : اللمع ، حققه ، وقدم له وخرج أحاديثه : الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ، لجنة نشر التراث الصوفي ، 1380هـ – 1960م ، ملتزم الطبع والنشر دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى – ص22
152- نفسه – ص27
153- السهروردي – عوارف المعارف ط/ دار الكتاب العربي ص43
154- السهروردي – ص4
155- القشيري( أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان ) : الرسالة القشيرية ، وضع حواشيه : خليل المنصور ، منشورات دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان طبعة 2001م – ص138
156- السهروردي – عوارف المعارف ص44
157- القشيري : ن.م – ص139
158- السهروردي – ص43
159- القشيري – ن.م – ص13
160- ابن عجيبة( عبد الله أحمد) : معراج التشوف الى حقائق التصوف ، تقديم وتحقيق : عبد المجيد خيالي ، نشر مركز التراث الثقافي المغربي ، الدار البيضاء ، بدون سنة الطبع ، ص3 ، 4
161- القشيري – مصدر سابق – ص178
162- لكتب الإمام الخميني التي ذكرناها – للمزيد يقرأ كتاب الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور محمد كامل الشيبي – المكتبة الجامعية بفاس – المعرب لمعرفة تلك الشواهد البيولوجرافية لا بد من العودة .
163- المصادر السابقة وهي كتب الإمام الخميني – خاصة شرح دعاء السحر .
164- د. سامي مكارم – العرفان في شعر الإمام الخميني – دراسة صادرة عن معهد المعارف الحكمية – بيروت 2003 ، ونقل الدكتور سامي عن أنا الحق بين الحلاج والإمام الخميني» ، 1420هـ
165- الحلاج ، ديوان الحلاج ، إعداد وتقديم عبده وازن ، بيروت – دار الجديد 1998 – ص142 – نقلا عن المصدر السابق .
166- روح الله الموسوي الخميني ، الفناء في الحب ، ترجمة وشرح وتفسير لجنة التحقيق والإعداد ، بيروت ، دار التعارف ، د.ت. ، الرباعية – ص21
167- المصدر السابق ، وأيضا : إمام الخميني ، شرح دعاء السحر ، بيروت ، مؤسسه تنظيم ونشر آثار – 1986 – ص16
168- رسائل الإمام الخميني العرفانية ، طهران ، مؤسسه تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني .
169- د.زهير غزاوي – العرفان في شعر الإمام الخميني – مجلة البينات – بيروت العدد 222 – 2001 – ببعض التصرف .
170- المصدر السابق .
172- نفسه .
172- المصدر السابق .
173- المصدر السابق .
زر الذهاب إلى الأعلى