مقالات

يقظة الديك النائم

كتب رياض الفرطوسي

بعض رؤوساء الوزراء السابقين حين يُغادرون كراسي السلطة، لا يغادرونها فعلاً. يكتفون بإعادة تمثيل دور المنقذ على الورق، يكتبون المقالات كما لو أنهم لم يحكموا، وكأن أعوامهم في السلطة لم تكن سوى “بروفة” ثقيلة لخطابهم التالي. أحدهم خرج علينا من منصة صحفية ناعمة بكلمات تحاكي التحولات الجيوسياسية، متناسياً أن التحول الأول الذي عجز عنه كان تحريك عجلة وزارته المعطلة.

كتب عن “إعادة تشكيل العالم من منطقتنا”، وكأن العراق لم يُعد تشكيله أكثر من مرة على يديه، كل مرة بوجه مشوّه جديد. يتحدث عن “الحوار أم النار”، وهو الذي صمت حين علت أصوات الرصاص فوق أسطح الخوف، وامتلأت الشوارع بجثث المتخاصمين. أي حوار يقصده مَن لم يُصغِ حين صرخ أبناء بلده في وجهه؟

الرجل لم يكن جزءاً من مشهد الإصلاح، بل كان ركناً ثابتاً من مشهد الجمود. وحين سقط الجدار، خرج حاملاً فرشاة التحليل ليرسم علينا لوحة من كلمات باردة لا تُشبه الجمر الذي خلّفه وراءه. نسي أنه في عهده احترقت المدن بالحزن ، وهاجر الأمل، وتحوّلت الدولة إلى سلسلة من الصفقات والتوازنات الهشة.

واليوم، يكتب عن “الدولة”، كأنها اختُرعت بعده، لا قبله. يتحدث عن “اللحظة التاريخية”، وقد مرّت اللحظة أمامه حين كان في الحكم، فلم يلتقط منها إلا الصورة. لا مشروع، لا خيال، لا قرار واضح. بل حالة دائمة من التردد، يزينها ببعض البلاغة ويختمها بعبارات مطاطية عن الشراكة والتنمية.

ولأن المقارنة أسهل من المبادرة، راح يحدّق في الخليج العربي، مشيداً بما أنجزته دول الجوار، بينما غرق في أيامه بمنطق “من لا يرضى فليشرب من بحر التيه”. نسي أن تلك الدول تقدّمت لأنها اتخذت القرار، لا لأنها كتبت المقالات.

أما نحن اليوم، فلسنا في المكان ذاته. نحن الآن في تجربة عراقية جديدة، ربما لم تكتمل بعد، لكنها تملك نبضاً مختلفاً. لم نعد نقيس الزمن بخطابات القادة، بل بمقدار ما يُنجز في الميدان. لا نبحث عن بطولات من ورق، بل عن مصانع تُبنى، وطرق تُعبد، واستثمار يُخلق لا يُنهب. العراق اليوم يتبنّى البناء طريقاً، لا شعاراً، ويختار الاستثمار منهجاً، لا مناورة. وهذه هي اللحظة التي كنّا ننتظرها… لا اللحظة التي ضيّعتها النخب السابقة بأوهام الحياد والتوازن العقيم.

ما نحتاجه الآن ليس مَن يُذكّرنا بفشله، بل مَن يتواضع ليصمت. فبعض الصمت شهادة، وبعض الكتابة جريمة في حق الذاكرة. نحن لا نكره من فشل، بل من أصرّ على تسويق فشله كدرس. ولا نخشى من النقد، بل من أولئك الذين كانوا جزءاً من التعطيل، ثم تنكروا لمسؤوليتهم وارتدوا عباءة الحكماء بعد الغروب.

العراق ليس حقل تجارب لمن ناموا في لحظة الحقيقة واستيقظوا على ضجيج المرايا. العراق اليوم، وإن جُرح طويلًا، قرر أن يُلملم نُدوبه ويقف. ليس بعكازات اللغة والكتابات ، بل بأقدام الناس… وأحلامهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى