مقالات

غربة العقلاء

كتب رياض الفرطوسي

العاقل كائن شارد، لا يتكئ على يقين، ولا يتماهى مع الضجيج. يحدّق في العالم كما يحدّق الحكيم في ساحة مهرجان صاخب، لا يشارك فيه، لكنه يقرأ وجوهه، ويحفظ ملامحه، ويقلق مما لا يراه الآخرون. وفي زمنٍ ارتفعت فيه أصوات الصارخين، وتكاثرت ثقة الجاهلين، بات العاقل يعيش في هذا العالم وكأنه غريب فيه، محكومٌ عليه بالشك، محاصرٌ بأسئلته، متَّهَم بالريبة لأنه لا يصفق مثل الباقين.

كان برتراند راسل، الفيلسوف الذي نصب محكمة أخلاقية لمحاكمة أميركا زمن حرب فيتنام، قد فهم جوهر المأساة حين قال: “مشكلة هذا العالم أن الأغبياء واثقون بأنفسهم أشد الثقة، أما الحكماء فتملأهم الشكوك.” وكأن العالم منذ نطقه هذه العبارة لم يبرح مكانه، أو كأن الأيام لا تفعل سوى إعادة إنتاج الحماقة، بأزياء جديدة وأقنعة ملوّنة.

لكن، من أين يستمد الأحمق ثقته؟ هل هي قناعة؟ أم خواءٌ يُغطّى بالجعجعة؟ الثقة الحقيقية لا تنبت من جهل، ولا تعيش في صدرٍ أجوف. إنها بناءٌ داخليّ، يحتاج إلى وعي وتجربة وتأمل، يحتاج إلى بيت من الفكر، ومصباح من القلق، ونوافذ مفتوحة على العالم، لا جدران من التكرار.

أما ثقة الأبله، فهي كرجلٍ يلوّح لمصور وهو يقف على حافة هاوية لا يدري بوجودها، أو كمن ينظّم حياته بدقة على ظهر سفينة مائلة لا يعلم أنها على وشك الغرق. وقد تشبه أيضاً مشهداً التقطته الذاكرة يوماً: حيوانات ترعى في حقلٍ أخضر قرب سورٍ صامت، تمضغ العشب بطمأنينة، لا تدري أن رائحة الدم تلوح في الأفق. إن الإدراك المتأخر، في هكذا مشاهد، لا يغيّر المصير. الفهم الذي يأتي بعد الباب المغلق لا يفتح شيئاً.

العاقلُ ليس متفوقاً بذاكرته على الآخرين، بل بقدرته على الشك، بالتفريق بين الحقيقة والوهم، بين الكثافة والسطح. بينما الأبله يظن أن تكراره للمعلومة، أو حفظه لقاموسٍ مشوّه من التجارب الضحلة، دليلٌ على العمق، ينسى أن حاسوباً صغيراً قد صار أذكى منه، وأسرع في الوصول إلى المعنى.

يعيش العاقل وسط عالمٍ مضطرب لا يكفّ عن الزيف. عالمٌ قد ينفجر في أي لحظة بسبب قرار معتوه أو نزوة متعصّب، ويظل فيه الحذر مذمّة، والفطنة عبئاً. العقلاء في مثل هذا العالم لا يطمئنون، لأن الطمأنينة الحقيقية لا تسكن في أرض يلهو فيها الجهلة بمصائر الأمم، ويحتفل فيها الزيف بانتصاراتٍ مؤقتة، تُبنى على الرماد.

والغربة هنا لا تعني الانعزال الجغرافي، بل عزلة فكرية داخل الوطن. هي الشعور بأنك في غير مكانك، حتى وإن كنت في قلب مدينتك. غربة تُعاش كلما شاهدت مهرجانات التهريج تُوصف على أنها إنجاز، وكلما رأيت الرصيف يُفرش للأبله، ويُسحب من تحت أقدام المثقف.

وهذه الغربة ليست جديدة على أرضٍ كالعراق. فكم من مفكر شريف حُوصِر بالتحريض، أو جُرّد من منبره، أو سُجن في صمته. لا تزال آثار الطرد تلاحق من نادى بالعقل، من أراد إصلاحاً دينياً أو سياسياً، من رفع راية التنوير لا راية الولاء. مفكرون كزكي نجيب محمود الذي أراد للعقل أن يكون أداة نهضة لا صدى ماضي، أو عبد الجبار الرفاعي الذي حلم بفقهٍ للكرامة لا فقهٍ للطاعة، يُتركون في الزوايا، بينما يصعد من لا يحمل سوى شعاراتٍ خاوية وذاكرة من ورق.

في بلاد كهذه، يستطيع أي عابر، أو وارث بالصدفة، أن يغير مصير شعب، أو يمحو مصير مثقف. فالمجتمع، حين يكره التفكير، يحوّل العقلاء إلى أعداء، ويصنع للحمقى عروشاً فوق جماجم الخيبة.

لكن، رغم هذا كله، لا يموت العقل. لأنه ليس جملة في كتاب، ولا رجلاً في منصب. العقل شُعلة تتنقل من جيل إلى جيل، تحترق في صمت، وتضيء لمن يراها. وغربة العقلاء، مهما اتسعت، تظل علامة على حضورهم، لا غيابهم. لأن النور لا يُلاحظ إلا وسط عتمةٍ كثيفة، والسؤال لا يُطرح إلا في حضرة الصمت الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى