اقتصاديةعراقية

ازمة المياه في العراق واسقاطات الامن والسياسة والاقتصاد

بقلم : عادل الجبوري

في بلد مثل العراق، يضم نهرين كبيرين، يمتدان من اقصى الشمال وحتى اقصى الجنوب، ويعدان من بين ااكبر الانهار في العالم، يفترض ان يتمتع بوفرة عالية من المياه، تنعكس على القطاع الزراعي بالدرجة الاساس، ومعه القطاعات الصناعية المختلفة، والجوانب الحياتية الخدمية. بيد ان صورة الواقع تبدو مختلفة الى حد كبير في ظل التناقص الحاد بكميات المياه، واتساع ظاهرة التصحر والجفاف، وتراجع وانحسارات مساحات الاراضي المزروعة بشكل واضح وملموس.

تشكل مياه نهري دجلة والفرات، التي تأتي من تركيا ما نسبته 70% من مجموع الثروة المائية العراقية، بينما تشكل نسبة المياه الواردة من ايران عبر عدد من الانهار الصغيرة حوالي 12%، في حين تأتي النسبة المتبقية من الامطار والبحيرات الاصطناعية والخزانات المائية والمياه الجوفية.

والى ما قبل بضعة اعوام، كانت ثروة العراق المائية تقدر بـ(150) مليار متر مكعب، الا انها تراجعت الى اقل من مائة مليار متر مكعب. وفي ظل ذلك التراجع المخيف، اتسعت دائرة المخاوف والهواجس من مواجهة تحديات ومخاطر معقدة وكبيرة وشائكة، لاتقتصر على قطاع معين، بل انها تشكل تهديدا واقعيا متعدد الجوانب والمستويات، يمس حياة  ملايين الناس، وربما يتنامى ذلك التهديد ويتسع مع غياب الحلول والمعالجات الحقيقية.

ولعل هناك عوامل وظروف واسباب عديدة ساهمت في تفاقم ازمة المياه في بلد المياه، بعضها خارجية عامة، وبعضها الاخر داخلية خاصة. وقد تكون ظواهر التغير المناخي، من قبيل الاحتباس الحراري، والارتفاع المتواصل في معدلات درجات الحرارة لعموم الكرة الارضية، وانخفاض كميات الامطار، وتزايد الحاجة العالمية الى المياه في مجالات الزراعة والصناعة والطب وغيرها ارتباطا بالتطور العلمي المتسارع، من بين ابرز العوامل والظروف والاسباب الخارجية، علما ان البلدان التي تمتع باوضاع سياسية وامنية مستقرة، وتتبنى استراتيجيات علمية وعملية دقيقة وعميقة، راحت توفر خيارات وبدائل مثمرة لمواجهة ازمة نقص المياه لديها، وهذا الامر للاسف لاوجود له في العراق، واذا كان موجودا فبحدود ومستويات متواضعة جدا لاترقى الى حجم المخاطر والتحديات القائمة والمتوقعة.

وثمة حقائق على الصعيد العام، لابد من الالتفات اليها والتوقف عندها، لانها غير بعيدة عن واقع الازمة في العراق، وفي اي بلد اخر. ومن بينها، ان بوادر وملامح ازمة المياه في العالم على وجه العموم، اخذت تظهر وتلوح في الافق منذ اربعة او خمسة عقود من الزمن، حتى ان الكثير من الاوساط والمحافل السياسية والاقتصادية، ومراكز البحث والتفكير، راحت تردد مقولة (ان الماء سيصبح في يوم من الايام اغلى من النفط)، واكثر من ذلك، اهم منه.

ولعل مصاديق مثل هذه المقولة نجدها تتجلى بأشكال وصور ومظاهر مختلفة، ليس اقلها ان استخراج وانتاج النفط لايمكن ان يتم دون توفر المياه، سواء تحت سطح الارض او فوقه، ناهيك عن ان اتساع نطاق التلوث البيئي وما يتسبب به من مخاطر صحية هائلة جراء استخدام الواسع للنفط ومشتقاته ومخلفاته، جعل مختلف البلدان تتجه الى البحث عن مصادر  الطاقة  النظيفة المتجددة، التي تعتمد اساسا على المياه والشمس والرياح.

ويشير مدير برنامج الامم المتحدة للتنمية في العراق (باولو ليمبو) في اطار الاسبوع العالمي للمياه الذي عقد في العاصمة السويدية استوكهولم اواخر شهر اب-اغسطس الماضي، الى “ان المصدر الاستراتيجي الأكثر أهمية في الشرق الأوسط والدول المجاورة للعراق ليس النفط ولا الغاز بل هو المياه، وانه مع تزايد عدد السكان وشح متزايد في المياه وعدم توقع وجود احتياطي في المياه وتدهور نوعيتها بسبب التغير المناخي، فإن ملايين الأشخاص قد شعروا بارتفاع حرارة الأرض، مما يتطلب وضع خطط أو تطوير استراتيجيات لمرحلة مستقبلية، الآن وليس خلال عشرة اعوام او خمسة عشر عاما”.

ومن بين تلك الحقائق ايضا، هي ان الصراعات على المياه، تعد من ابرز انواع الصراعات في ميدان العلاقات الدولية في عالم اليوم، وغالبا ما تستخدم العديد من الحكومات ورقة المياه لتحقيق مكاسب سياسية وامنية واقتصادية على حساب خصومها واعدائها، وتعاطي تركيا بهذا الشأن يعد خير دليل واوضح مثال، وهو لايختلف كثيرا عن تعاطي اثيوبيا التي تتحكم بمنابع نهر النيل، وتساوم وتضغط وتماطل مع كل من السودان ومصر للاستحواذ على اكبر قدر من مياه النهر عبر اقامة السدود والخزانات الضخمة وانشاء المشاريع الزراعية والصناعية الكبرى.

فملف الخلافات المائية بين العراق وتركيا، ملف شائك ومعقد، وعلى امتداد اربعة عقود من الزمن، تداخلت معه الملفات السياسية والامنية والاقتصادية. ولم يختلف مجمل سلوك صناع القرار التركي عن نظرائهم في اديس ابابا.

وبما ان نهري دجلة والفرات يمثلان 70% من مجموع ثروات العراق المائية، وبما انهما ينبعان من الاراضي التركية، فمن الطبيعي جدا، ان يتسبب استئثار تركيا وعدم التزامها وتقيدها بالحصص المقررة لها ولشركائها الاخرين-العراق سوريا-بمشاكل وازمات متعددة الابعاد والجوانب، لاسيما العراق.

ووفقا لمعهد ميديترينيان للدراسات الإقليمية(MIRS)، فان العراق يفقد القسم الأعظم من مصادر مياهه، اذ كانت تصريفات المياه الداخلة عن طريق نهر الفرات من تركيا وسوريا عام 1933 تبلغ 30 مليار متر مكعب، لتتراجع  الى 9.5 مليار متر مكعب في عام 2021، اما نهر دجلة فقد كانت تصريفاته 20.5 مليار متر كعب، واصبحت في عام 2021 حوالي 9.7 مليار متر مكعب!.

وكل ذلك يعود الى مشروع جنوب شرق الاناضول (GAP)، الذي ترجع فكرة انشائه الى بدايات تاسيس دولة تركيا الحديثة في الربع الاول من القرن الماضي، وتتمحوراهدافه حول انشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، وبناء العديد من السدود على نهر الفرات، وانشاء المشاريع الزراعية ومشاريع الثروات الحيوانية، فضلا عن المنشات الصناعية المتخصصة بالصناعات التحويلية.

ويعد مشروع (GAP) من اكبر واهم المشاريع التي تبنتها تركيا، اذ يعتمد بنسبة 80٪ على مياه نهر الفرات، و20٪ على مياه نهر دجلة. ويمتد لعدة محافظات تركية، مثل باتمان ودياربكر وسرت ولكس وماردين وغازي عنتاب، ويشغل 9.7٪  من مساحة تركيا، و20٪ من الأراضي الزراعية فيها.

والملفت ان كميات غير قليلة من المنتجات الزراعية والحيوانية التي يتم انتاجها في اطار المشروع باتت تصدر الى العراق، هذا في الوقت الذي تراجعت المساحات الصالحة للزراعة فيه الى مستويات مقلقة، بحيث ان الناتج السنوي للمحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والشعير والرز، تقلص كثيرا، هذا الى جانب المحاصيل الموسمية الاخرى من الخضروات والفواكهة، وترتب على  ذلك هجرة اعداد لايستهان بها من الفلاحين الى المدن، وبالتالي استفحال البطالة مع اتساع ظاهر التصحر، ناهيك عن انخفاض مناسيب المياه في السدود، مما اثر على عمليات توليد الطاقة الكهربائية، وكذلك جفاف مساحات شاسعة من مناطق الاهوار في جنوب البلاد، وهو ما ادى الى حصول تهديد  كبير وجدي للتنوع البيئ، خصوصا وان اهوار العراق تزخر بمئات الانواع والاصناف من الطيور والحيوانات والنباتات البحرية، وطبيعي ان الجفاف يؤدي الى زوالها وفقدانها، وفي ذلك خسارة عظيمة للبلاد.

ولاشك ان تركيا استخدمت ورقة المياه لتحقيق مكاسب مختلفة، فهي من جانب عززت من انتاجها الزراعي والصناعي وتوليد الطاقة وحركت سوق العمل لديها، ومن جانب اخر ربطتها مع ملف حزب العمال الكردستاني المعارض(PKK)، ورأت ان احداث تنمية وازدهار اقتصادي وحياتي في مناطق جنوب شرقها المحاذي للعراق، من شأنه ان يقطع الطريق على  حزب العمال، ويقلل من فرص وامكانيات تواجده في تلك المناطق.

ومن باب الموضوعية، فان هناك اسبابا وعوامل اخرى وراء تراجع الثروة المائية في العراق، تتمثل بالبقاء على طرق الري التقليدية القديمة التي تتسبب بهدر كميات كبيرة من المياه، وعدم وجود القوانين الرادعة التي تمنع او تحد من الاسراف والعشوائية في استخدامها، ناهيك عن غياب التخطيط الممنهج والمدروس في هذا الجانب، وهذا ما تحدث به وزير الموارد المائية في الحكومة الجديدة عون ذياب مؤخرا، وما تطرق اليه مرات عديدة سابقا، حينما كان يشغل خلال اعوام طويلة مواقع مفصلية مختلفة في الوزارة، وما حذر منه العديد من خبراء المياه في داخل العراق وخارجه.

قد لاتختلف عملية ادارة ملف المياه عن ادارة مجمل الملفات المهمة والاستراتيجية في البلاد، التي ادت الى تبديد الموارد والثروات، وتعميق المشاكل والازمات، وتضاؤل فرص الحلول والمعالجات.

واذا كانت الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني صاحب التخصص الاكاديمي في مجال العلوم الزراعية، جادة في تحسين الواقع الزراعي والنهوض به، كجزء من التوجه نحو اصلاح القطاعات الانتاجية الخدمية، فأن ذلك لن يتحقق ما لم تكن هناك حلولا ومعالجات فنية وتقنية وسياسية عملية وسريعة لازمة المياه، مع عدم التعويل والمراهنة على حلول ومعالجات الخارج، لان تركيا لن توقف مشاريعها ولن تغير خططها، ولن  توقف تجاوزاتها. وايران حتى وان تعاطت بأيجابية مع العراق، فأن كميات المياه القادمة منها، والتي ترتبط اساسا بمعدلات الامطار، لا تغير من الواقع شيئا لان نسبها قليلة مقارنة بنسبة المياه القادمة من تركيا. لذلك فان حلول ومعالجات الداخل هي المفتاح والمخرج المناسب، ونقطة الشروع الحقيقية لابد ان تكون من الحكومة اولا واخيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى