لعلها مصادفة جيدة، حينما كانت الجزائر اول دولة يزورها الرئيس العراقي الجديد عبد اللطيف رشيد، للمشاركة في الدورة الحادية والثلاثين للقمة العربية، حيث اتيح له ان يلتقي بعدد من الزعماء والقادة والساسة العرب، والذين ربما لن يكن ممكنا اللقاء بهم في مناسبات اخرى وخلال فترة زمنية قصيرة ومحددة.
والى جانب القضايا والملفات الاقليمية والدولية التي بحثها الرئيس رشيد مع من التقاهم في الجزائر، كانت تلك اللقاءت فرصة مناسبة جدا، لتأكيد ثوابت العراق في سياسات وعلاقاته الخارجية مع محيطه الاقليمي وعموم المجتمع الدولي، ولتجديد دعم اشقائه العرب له، مع خروجه من حالة الانسداد السياسي وتشكيله حكومة جديدة، امامها العديد من المهام والاستحقاقات الثقيلة، وتواجه الكثير من التحديات الخطيرة.
يمكن اعتبار مشاركة الرئيس العراقي الجديد في القمة العربية الاخيرة وما تخللتها من لقاءات ومباحثات، باكورة عمل وتحرك الحكومة العراقية الجديدة على ملف السياسة الخارجية، هذا اذا افترضنا انه وبحسب الدستور العراقي، تتمثل السلطة التنفيذية بمفصلي رئاسة الجمهورية والحكومة.
وهنا فأنه من المهم جدا تسجيل جملة ملاحظات عامة وجوهرية بهذا الخصوص.
الملاحظة الاولى، انه منذ الاعلان عن ترشيح محمد شياع السوداني من قبل الاطار التنسيقي لرئاسة الحكومة في اواخر شهر تموز-يوليو الماضي، ومن ثم تكليفه رسميا بتشكيلها من قبل الرئيس المنتخب عبد اللطيف رشيد في الثالث عشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر الماضي، افرد حيزا من حراكه لملف السياسة والعلاقات الخارجية، عبر سلسلة رسائل واشارات ولقاءات مع ساسة ودبلوماسيين عرب واجانب من دول مختلفة، انطوت على توجهات ايجابية لتحقيق المزيد من الانفتاح في علاقات العراق مع جيرانه ومحيطه الاقليمي والفضاء الدولي بما يعزز مكانته، ويكرس سيادته ويوسع مصالحه، فضلا عن جعله نقطة التقاء وساحة للتفاهم والحوار بين الفرقاء.
الملاحظة الثانية، تتمثل في ان الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، وان اخفقت في بعض او معظم الاستحقاقات الداخلية المطلوبة، الا انها سجلت بصمة واضحة في مجال السياسة الخارجية، وعلى مستويين، الاول هو الحضور الملموس في مختلف المحافل الدولية، وتوسيع افاق العلاقات مع قوى اقليمية ودولية متعددة، والثاني، تطويق المشاكل والازمات والخلافات بين اطراف متخاصمة، عبر تهيئة الاجواء والظروف المناسبة لحوارات بناءة، كما حصل بين ايران والسعودية، فضلا عن المساهمة بنزع فتيل جملة من ازمات المنطقة، او التخفيف من حدتها وتطويقها عند مديات وحدود معينة.
الملاحظة الثالثة، هي ان مفتاح الاستقرار الداخلي للبلاد، على الصعد السياسية والامنية والاقتصادية، يتمثل في طبيعة العلاقات مع الاطرف الخارجية، الاقليمية منها والدولية، والتي غالبا ما تكون لديها سياسات ومواقف ومصالح متقاطعة ومتناقضة فيما بين بعضها البعض، ويتطلب التعاطي معها قدرا كبيرا من الحكمة والعقلانية، دون الاخلال بالثوابت مع تجنب سياسة المحاور والاستقطاب والاصطفاف مع طرف ضد طرف اخر.
والسوداني، قبل نيل حكومته ثقة البرلمان وبعد ذلك، اجرى العديد من اللقاءات مع سفراء ايران والولايات المتحدة الاميركية والاتحاد الاوربي والسعودية ودول اخرى، وكذلك مع مبعوثة الامم المتحدة، وهي لقاءات، وان كان طابعها دبلوماسي بروتوكولي، ارتباطا بتولي السوداني رئاسة الحكومة الجديدة، الا ان “الرسائل المتبادلة” خلالها انطوت على اهمية كبيرة، واشرت الى طبيعة التوجهات والمسارات في التعاطي مع المتغيرات.
ولاشك انه مثلما تكون للعراق محددات واولويات في ترتيب علاقاته مع كل طرف من الاطراف، فأن الاخيرة لها ذات الشيء، ومن الخطأ وغير المعقول ان توضع كل الملفات ومع كل الاطراف في قالب واحد وعلى سكة واحدة.
والنقطة الجوهرية هنا، تتمثل في ضرورة استثمار اجواء الدعم والتأييد الاقليمي والدولي الواسع للحكومة الجديدة في تحقيق جملة امور، اهمها تعزيز وتحسين الاوضاع الاقتصادية للبلاد، والعمل على معالجة الملفات والقضايا العالقة، لاسيما ذات الطابع الامني، وتجنيبها-بأقصى قدر ممكن-الاثار والانعكاسات والاسقاطات السلبية للخلافات والصراعات بين الخصوم والفرقاء. واليوم فأنه في عواصم مختلفة، يتردد القول “ان التزام رئيس الوزراء العراقي الجديد سياسة خارجية متوازنة وعلاقات جيدة مع جميع جيران العراق يفتح آفاقاً إيجابية للمستقبل”.
فمع اهمية العلاقات مع الولايات المتحدة الاميركية، لابد ان يكون من بين اولويات الحكومة العراقية الجديدة، حسم موضوعة الوجود الاميركي في البلاد، بأطاره العسكري والامني، واكثر من ذلك، وضع حد لهيمنة واشنطن على بعض المفاصل المالية والامنية والاقتصادية الحيوية العراقية، واعادة النظر ومراجعة الاتفاقية الامنية واتفاقية الاطار
الاستراتيجي، اللتين ابرمتا بين بغداد وواشنطن قبل اربعة عشرعاما في ظل ظروف واوضاع استثنائية ضاغطة في حينه.
ومع دول مثل السعودية والامارات، بدت خلال الاعوام القلائل الماضية راغبة بتصحيح مسارات علاقاتها مع العراق، من المهم ترجمة تلك الرغبات عبر خطوات عملية تكفل معالجة الاخطاء والمواقف السلبية السابقة، ودعم وتعضيد العملية السياسية الديمقراطية، بعيدا عن اجندات التخريب والتدمير واثارة الفتن وخلط الاوراق.
وبخصوص تركيا، فأنه في الوقت الذي يتحتم فيه على الحكومة العراقية، عدم السماح بأتخاذ الاراضي العراقية منطلقا لتهديد امن الجيران، عليها-اي تركيا-ان لاتتخذ من وجود جماعات سياسية وعسكرية معارضة لها في العراق ذريعة لتمرير خططها التوسعية، وتكريس وتوسيع وجودها العسكري وغير العسكري.
وكمبدأ عام، قد لايختلف الامر مع ايران، الا ان المنهج والمسار الايجابي لعلاقاتها مع العراق طيلة العقدين المنصرمين، رغم حرب الثمانية اعوام وتراكماتها الكبيرة، يقتضي عدم التفريط بما هو متحقق، سياسيا وامنيا واقتصاديا ومجتمعيا، وهنا ينبغي الالتفات الى ان ايران كانت في طليعة الدول الداعمة والمساندة للعراق بعد الاطاحة بنظام صدام، عبر رفع تمثيلها الدبلوماسي فيه، وفتح افاق التعاون الاقتصادي معه، ودعم العملية السياسية، والوقوف معه في مواجهة الارهاب التكفيري المتمثل بتنظيم القاعدة اولا، ومن ثم تنظيم داعش.
واذا كانت عملية ترتيب وتعزيز علاقات العراق بجيرانه ومحيطه الاقليمي، تحظى بأهمية كبرى، وتعد عاملا اساسيا في استقراره السياسي، وازدهاره الاقتصادي، وتماسكه الامني، فأن ترتيب وتعزيز علاقاته مع المجتمع الدولي، لاسيما القوى والاطراف المؤثرة والفاعلة فيه، والتي تربطها معه مصالح تتداخل مع مصالحها وحساباتها في عموم المنطقة، لايقل اهمية وضرورة. وقد اثبتت التجارب السابقة، ان رهن ارادة البلاد ومصيرها ومستقبلها بيد قوة عالمية واحدة، كأن تكون الولايات المتحدة الاميركية، واهمال قوى اخرى مؤثرة وفاعلة، مثل روسيا والصين، مثل خطأ فادحا، وكانت له انعكاسات سلبية هائلة.
فطبيعة المعادلات العالمية، ومساحات التأثير، وتباين الاولويات، ومناهج ادارة الازمات، كلها مسائل، يجب اخذها بعين الاعتبار عند رسم وصياغة مسارات وسياقات السياسات الخارجية. فالفرق كبير جدا بين الولايات المتحدة الاميركية التي تتصرف بمنطق الهيمنة والاستعلاء والاملاء، مستعينة بأمكانياتها وقدراتها العسكرية الضخمة، وبين الصين صاحبة الرؤية الاقتصادية العميقة. وفي هذا السياق، يمكن الاشارة الى ردود الافعال السلبية لواشنطن حيال الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين، التي ابرمت في عهد رئيس الوزراء الاسبق عادل عبد المهدي، اواخر شهر ايلول-سبتمبر من عام 2019، وكانت احد اسباب سعي واشنطن لاسقاط حكومة الاخير، وقبل ذلك، وفي عهد رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، بذلت واشنطن جهودا محمومة لافشال صفقات الاسلحة المبرمة مع روسيا، دون نسيان مساعيها لقطع الطريق امام شركة سيمنز الالمانية المتخصصة في قطاع الطاقة الكهربائية لابقاء الساحة خالية لصالح شركة جنرال اليكتريك الاميركية.
على حكومة السوداني تفعيل الاتفاقية العراقية-الصينية، وعدم حصرها في بناء مجموعة مدارس فقط، والانخراط في مشروع الحزام والطريق الاستراتيجي، وعدم اهمال روسيا رغم انشغالها بدوامة الحرب وصراعها مع اوكرانيا والغرب. وكذلك مدّ المزيد من جسور التواصل مع قوى ناهضة في الفضاء الدولي، كالهند وباكستان ودولا اخرى في افريقيا واميركا اللاتينية واسيا.
وفي ذات الوقت الذي يفترض ان يشكل الاقتصاد محورا ومرتكزا اساسيا في رسم سياسات العراق الخارجية، فأن ما يجب على حكومة السوداني فعله، هو الفصل والتمييز قدر الامكان بين الاستحقاقات والحسابات الاقتصادية من جهة، وبين مشاريع واجندات التطبيع السياسية، التي تتخذ من الاقتصاد بوابة لها من جهة اخرى، ويكفي دليلا على ذلك، مشروع الشرق الاوسط الكبير، وصفقة القرن، واتفاقيات السلام الابراهيمي، والشام الجديد وغيرها.
لعل الفرصة مواتية لرئيس الوزراء العراقي الجديد ان يعزز المسارات الصائبة ويصحح المسارات الخاطئة، لا على صعيد الملفات الداخلية الامنية والخدمية والمالية فحسب، بل على صعيد الملفات الخارجية، التي لاتبتعد في الكثير من محطاتها ومنعطفاتها عن الداخلية.