نختتم بهذا المقال عرضنا لكتاب القس جيمس أندرسون “دساتير الماسونيين الأحرار” الذي نشر عام 1723 بتكليف من المحفل الماسوني الكبير في لندن.
وقد وقعنا على هذا الدستور أثناء تناولنا لدور الماسونية في التغيّرات التي تعرّضت لها الأخلاق في عصر التنوير، ووجدنا أنه من الضروري عرض هذا الدستور للقراء الكرام في الوقت الذي تحتفل فيه الحركة الماسونية هذا العام على مستوى العالم، بمناسبة مرور 300 عام على صدوره.
وقد كشف لنا هذا الدستور مدى تجذّر وقوة وهيمنة الحركة الماسونية، التي قادت باحتراف كبير عصر التنوير في القرنين الـ17 والـ18 حيث بدأت فيهما عملية هدم النظام العالمي الغربي القديم وبداية تأسيس النظام الجديد أواخر القرن الـ18. كما كان لها الدور الأكبر في قيادة العالم الجديد في القرن الـ19 وحتى اليوم، بما تمتلكه من نفوذ سياسي واقتصادي وعلمي متغلغل في كبرى الدول الغربية ومؤسساتها، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، بعد أن تم تدمير المرجعية السياسية والدينية والاجتماعية التي كان المجتمع الغربي يستمد منها قوته، لتحل محلها المرجعية الدستورية والقانونية، المتمثلة في قرارات وتشريعات الأغلبية الديمقراطية الحاكمة.
كشف دستور الحركة الماسونية لعام 1723 مدى تجذّر وقوة وهيمنة الحركة، التي قادت باحتراف كبير عصر التنوير في القرنين الـ17 والـ18، حيث بدأت فيهما عملية هدم النظام العالمي الغربي القديم وبداية تأسيس النظام الجديد أواخر القرن الـ18
أخطاء وتشويه وتضليل
ورد في الجزء الخاص بالموافقة (Approbation) على هذا الدستور وما احتوى عليه من تاريخ والتزامات ولوائح عامة، ما يكشف لنا شيئا من الظلمة الخاصة بتنظيم الحركة الماسونية في القرون السابقة للقرن الـ18 الذي صدر فيه هذا الدستور. فقد ورد في مقدمة الموافقة أن الحروب السكسونية والدانماركية والنورماندية التي سادت في القرون السابقة، وما خلفته من اضطرابات وارتباكات، أضرّت كثيرا بسجلات الماسونيين في تلك الفترة.
وقد رأي الماسونيون في إنجلترا لمرتين أنه يتوجب عليهم تصحيح دساتيرهم والتزاماتهم ولوائحهم، أما المرة الأولى فكانت في عهد الملك أثلستان الساكسوني (894-939م) ملك سكسونيا وإنجلترا، أي قبل حوالي 800 سنة من صدور هذا الدستور عام 1723، وكانت المرة الثانية بعد فترة طويلة في عهد الملك إدوارد الرابع (1442-1483م) ملك إنجلترا. وتشير المرة الأولى إلى حقبة العصور المظلمة في أوروبا، وتشير المرة الثانية إلى عصر النهضة.
كما جاء في الموافقة على دستور 1723، أن دساتير الماسونية القديمة في إنجلترا كانت محرّفة ومشوهة ومضللة بشكل بائس، حيث تكثر فيها أخطاء الكتابة، والعديد من الحقائق غير الصحيحة، والأخطاء الجسيمة في التاريخ والتسلسل الزمني، ساهم فيها لوقت طويل جهل النساخين في العصور الأمية المظلمة، قبل إحياء الهندسة والعمارة القديمة لاحقا، الأمر الذي اعتبر بمثابة جريمة عظيمة في حق جميع الأعضاء المتعلمين الحكماء من أبناء الحركة، بل وفي حق الجهلاء من غير المتعلمين أيضا، وهو ما سعى دستور 1723 إلى تدقيقه وتنقيحه، ليكون موحدا لجميع المحافل الماسونية في بريطانيا والعالم.
وما ورد في خطاب الموافقة هذا يؤكد أن تنظيم الحركة الماسونية كان موجودا في أوروبا منذ وقت مبكر، وكانت له الدساتير والأحكام والالتزامات واللوائح التي تنظم عمله، وتضبط شؤونه الداخلية، وعلاقاته الخارجية مع السلطات السياسية والدينية والاقتصادية التي كانت مهيمنة في تلك القرون.
لم تقم الحركة الماسونية بإعداد هذا الدستور بغرض مجرد تحقيق الانضباط والسيطرة، وإنما استعدادا لما ستقوم به في العقود اللاحقة من مهام وأعمال تمكنها من تفكيك النظام الغربي القديم
تشكيل المحفل الجديد
نستكمل فيما يأتي الجزء المتبقي من اللوائح الداخلية العامة للحركة الماسونية، والخاص باختيار السيد الأعظم للمحفل الكبير في لندن، وتشكيل المحفل.
بعد مرور بعض الوقت على العشاء، يكون المحفل الكبير في حالة انعقاد، بحضور جميع الإخوة، الذين لم يصبحوا بعد أعضاء فيه، ويجب ألا يتكلموا حتى يطلب منهم ويسمح لهم بذلك. إذا وافق السيد الأعظم المنتهية ولايته مع السيد والمشرفين على انفراد، قبل العشاء، على الاستمرار للسنة التالية، يتم تفويض أحد أعضاء المحفل الكبير لهذا الغرض، نيابة عن جميع الإخوة الأعضاء، ويطلب منه بتواضع باسم المحفل الكبير الاستمرار في أن يكون السيد الأعظم للمحفل الكبير للسنة التالية، حيث يقوم السيد الأعظم بإعلان موافقته بالانحناء أو الحديث، كما يحب.
ويجب على العضو المنتدب المذكور أن يعلن في المحفل الكبير عن موافقة السيد الأعظم، وعلى جميع أعضاء المحفل تحيته بالشكل المناسب. ويجب على جميع الإخوة أن يتركوا لبضع دقائق ليعربوا عن رضاهم وسعادتهم وتهنئتهم.
إذا لم يرغب السيد والمسؤولون على انفراد، في هذا اليوم السابق للعشاء، ولا في اليوم السابق، في أن يستمر السيد الأعظم المنتهية فترته في السيادة لمدة عام آخر، أو إذا لم يكن هو راغبا في ذلك، فحينها يقوم هذا السيد الأعظم بترشيح خليفته للسنة التالية، فإذا وافق المحفل الكبير بالإجماع على ذلك، وكان المرشح موجودا فسيتم إعلانه وتحييته وتهنئته، باعتباره السيد الأعظم الجديد على النحو الموضح أعلاه (في النقطة السابقة)، وعلى الفور تم تثبيته بواسطة السيد الأعظم السابق حسب المعتاد.
إذا لم تتم الموافقة على هذا الترشيح بالإجماع، فسيتم اختيار السيد الأعظم الجديد فورا عن طريق الاقتراع، ويقوم السيد الأعظم المنتهية ولايته وكل من سادة المحافل والمشرفين بكتابة اسم الشخص الذي يرشحه، والرجل الذي تتفق عليه الأغلبية، يكون سيدا أعظم للسنة التالية، فإذا كان موجودا، يتم إعلانه وتحييته وتهنئته وتثبيته على الفور بواسطة السيد الأعظم المنتهية ولايته، كما تمت الإشارة إليه أعلاه حسب المعتاد.
وهكذا، يستمر السيد الأعظم الأخير، أو السيد الأعظم الجديد، ويتم تثبيته على هذا النحو، وبعد ذلك يجب أن يقوم باختيار وتعيين نائب السيد الأعظم، إما النائب الأخير المنتهية فترته أو الجديد، والذي سيتم الإعلان عنه أيضا، وتحية وتهنئة كما تمت الإشارة إليه أعلاه.
وعلى السيد الأعظم الجديد أيضا أن يرشح المشرفين الكبار، وإذا وافق المحفل الكبير بالإجماع عليهم، فسيتم الإعلان والتحية والتهنئة، كما سبق الإشارة إليه، ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فسيتم اختيارهم عن طريق الاقتراع، بالطريقة نفسها التي يتم بها اختيار السيد الأعظم، كما أن اختيار مشرفي المحافل المعينة عن طريق الاقتراع في كل محفل، إذا كان أعضاؤها لا يوافقون على ترشيح سيدهم للمشرفين.
ورد في التذييل الختامي لهذا الدستور، أن السيد الأعظم المنتهية ولايته قد يرغب بعد ذلك في أن يقوم السيد الأعظم الجديد فورا بمباشرة أعماله، فيقوم السيد الأعظم الجديد باستدعاء اثنين من الأعضاء وتقديمهم إلى السيد الأعظم المنتهية ولايته لاستحسانه
ولكن إذا كان الأخ الذي سيرشحه السيد الأعظم الحالي لخلافته، أو الذي تختاره أغلبية أعضاء المحفل الكبير عن طريق الاقتراع، غائبا عن الاحتفال الكبير بسبب المرض أو لأي ضرورة أخرى، فلا يمكن إعلانه سيدا أعظم جديدا، إلا إذا كان السيد الأعظم السابق أو بعض سادة ومشرفي المحفل الكبير يؤكدون أن الشخص المذكور قد تم ترشيحه واختياره على هذا النحو سيقبل العمل في المنصب المذكور. وفي هذه الحالة، سيتصرف السيد الأعظم السابق كوكيل عنه، ويرشح النائب والمشرفين باسمه، ويتلقى باسمه أيضا التكريم المعتاد، والتحية والتهنئة.
ثم يسمح السيد الأكبر لأي أخ أو زميل أو مبتدئ بالتحدث، موجها خطابه إليه، أو لتقديم أي اقتراح لصالح الأخوّة، والذي ينبغي أن يتم النظر فيه على الفور والانتهاء منه، أو يُحال إلى المحفل الكبير في اجتماعه التالي، سواء أكان اجتماعا اعتياديا أم طارئا.
يجب على السيد الأعظم أو نائبه أو أحدا من الإخوة المعينين من قبله أن يناقش جميع الإخوة ويقدم لهم نصائح مفيدة. وأخيرا، بعد الانتهاء من بعض المعاملات الأخرى التي لا يمكن كتابتها، قد يذهب الإخوة الأعضاء أو يبقون لمدة أطول، حسبما يحلو لهم. يتمتع كل محفل كبير سنوي بسلطة وصلاحية متأصلة في وضع لوائح جديدة، أو لتغييرها، من أجل الفائدة الحقيقية لهذه الإخوة القديمة، شريطة الحفاظ على القواعد الأساسية القديمة بعناية، وأن مثل هذه التعديلات والإضافات في اللوائح يتم اقتراحها والموافقة عليها في الاجتماع ربع السنوي الثالث الذي يسبق الاحتفال السنوي الكبير، وأن تقدّم كذلك أيضا لمراجعة جميع الإخوة الحاضرين كتابة، قبل العشاء، حتى من أصغر المتدربين. إن استحسان وموافقة غالبية الإخوة الحاضرين على هذه اللوائح ضروريان جدا لتحقيق الإلزام والإجبار.
بعد العشاء، وبعد تثبيت السيد الأعظم الجديد، يجب أن يكون على استعداد لاعتماد هذه اللوائح، عندما يقترحها المحفل الكبير، على حوالي 150 من الإخوة، في عيد القديس يوحنا المعمدان.
وقد ورد في التذييل الختامي لهذا الدستور، أن السيد الأعظم المنتهية ولايته قد يرغب بعد ذلك في أن يقوم السيد الأعظم الجديد فورا بمباشرة أعماله، فيقوم السيد الأعظم الجديد باستدعاء اثنين من الأعضاء، وتقديمهم إلى السيد الأعظم المنتهية ولايته لاستحسانه، وكذلك إلى المحفل الجديد للحصول على موافقتهم.
ويجب على أحد المشرفين الرئيسيين أو المبتدئين، أو أحد إخوانه، التدرب على التزامات المشرفين، وعلى المرشحين الذين يطلبهم السيد الأعظم الجديد رسميا، أن يتقدموا إليه. وبناء عليه، يقوم السيد الأعظم الجديد، بتجهيز فريق مكتبه، بالشكل المناسب، وتثبيتهم في أماكنهم المناسبة. وعلى إخوة المحفل الجديد أن يظهروا طاعتهم للمشرفين الجدد، ويتقدموا لهم بالتهنئة المعتادة. وهكذا يتم تشكيل المحفل بشكل كامل، ويتم تسجيله في كتاب السيد الأعظم. وبموجب أمره، يتم إخطار المحافل الأخرى.
بقيت الإشارة إلى أنه من الأهمية بمكان الانتباه إلى أن هذا الدستور، وما اشتمل عليه من تعليمات محددة وأحكام صارمة، وضوابط ملزمة لكافة التفاصيل المتعلقة بالتنظيم الداخلي للحركة الماسونية، لم يكن بغرض مجرد تحقيق الانضباط والسيطرة، وإنما كان استعدادا لما ستقوم به الحركة الماسونية في العقود اللاحقة -في الخفاء- من مهام وأعمال تمكنّها من تفكيك النظام الغربي القديم وما يقوم عليه من مبادئ وقيم وهياكل ومؤسسات، وبناء النظام الغربي الجديد بمبادئ وقيم وهياكل ومؤسسات مختلفة تمكنّها من قيادة العالم.