قال فرانكلين روزفلت قبل الحرب العالمية الثانية : ( ما من رجل يستطيع ترويض النمر ليصبح هرة ، بضربة واحدة ) .. في إشارة منه الى هتلر..
في رسالة من الدبلوماسية الامريكية المحنكة مادلين اولبرايت الى الرئيس الأمريكي المنتخب تحت عنوان فن الاقناع .. تكتب وصيتها له عن كيفية استعادة هيبة أمريكا المفقودة ودورها القيادي ..
كعادتي القديمة باقتناء كل كتاب جديد تقع عيني عليه تناولت مذكرات عميدة السلك الدبلوماسي الأمريكي السياسية المحنكة اولبرايت التي اذهلتني بطريقة تناولها للاحداث وكتابة مذكراتها والتقاط يومياتها بشكل جميل معبر غاية الدقة ومنتهى البلاغة والهدفية وهي تشرح بخبرة معمقة وعين ثاقبة وبروح شفافة وبخطوات واثقة تتناول فيها ملفات متعددة وتسلط الضوء على زوايا مظلمة في خريطة الوجود الامريكي .. وقد تحدثت عن الدبلوماسية المشتقة من مفردة ذات اصل يوناني ( دبلوما ) وتعني الورقة المطوية التي يحملها شخص ما مزود بصلاحيات وهي بمثابة إجازة وتخويل للخوض في مسائل مهمة وخاصة بالملك.. وبالاساس كانت المهنة تعني الارستقراطيين لكنها اتخذت شكل اخر حينما تحولت املاكهم الى دول .. واخذت بعد اعمق على يد عمالقة الدبلوماسية ودهاة السياسة ( تاليران وبسمارك ومترنيح … ) في القرن التاسع عشر ممن جعلوا للاتفاقات السياسية هالة كبرى وان لم تكن مانعة او لاغية للخروج عن الاتفاق بل والتامر عليه اذا ما اقتضت الظروف والمصلحة ذلك .
اولبرايت تشرح الفارق بين السفارة الامريكية أيام زمان حينما كانت تشكل قبلة للعالم الاخر وتعد كمنتجع للحفلات التي يحتسى بها الشراب وتعقد الاتفاقات جنبا الى جنب مع فضاء مفتوح لحرية التعبير عن كل شيء .. فيما اليوم نراها تحاط بالجدران والعوازل وتنصب حولها الاسلاك والحراسات كانها سجن كبير .. في وقت كان السفير يسير بشكل واضح وتحمل سيارته علم الدولة الامريكية بما يجعل الاخرين يشيرون اليه بالبنان .. فيما اصبح الان لا يستطيع الظهور الا بإمكان محصنة ويحيطون به رجال غلاظ عريضي الاكتاف يضعون الاسلاك في اذانهم ويحملون المسدسات في احزمتهم ..
نتيجة لتلك التطورات وتعدد الأقطاب وبروز قوى واضمحلال وتلاشي أخرى أجبرت قادة دول العالم تنظيم انفسهم بقمم واحلاف ثنائية وثلاثية وخماسية وسداسية وثمانية … فضلا عن قمم الاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي والامم المتحدة .. وكذا الاحداث الخاصة والطارئة .. لا تنسى الوزيرة توصية رئيسها وتحذيره من أشياء لم يكن معتاد عليها من قبيل : ( عندما تسافر سيحيط بك حشد من المساعدين ممن يتدافعون بالمناكب لكي يسمح لهم دخول الاجتماعات .. ومن المفارقات ان الشخص الوحيد الذي يكون وجوده ضروري وحتمي هو ليس مستشارك بل انه المترجم الذي يمثل دورا كبيرا ومهما جدا ) .
كما انك ستجبر على زيارة دول ولقاء رؤساء وملوك وقادة … وستضطر لاخذ صور معهم وستخوض في متاهات دبلوماسية متعددة الأطراف وبرغم كل الهالة التي تحملها كعملاق تمثل دولة عظمى لكن المساعدون سيتحكمون ويحسمون الكثير من الأمور قبل أسابيع ويجعلوك اقرب الى جرو منك لعملاق يسير على مسرح الاحداث العالمية كرئيس اكبر دولة بالعالم .. سيوجهونك حيث يريدون ويسيروك كما مخطط وما عليك الا الوقوف امام شاشات التلفاز وعدسات المصورين والتحدث بنقاط معدة سلفا وان ترتدي قميص معين وبذلة خاصة وان تعدل شعرك وتضع السماعات على اذنيك لتفهم ما يقال وتقول .
تقول : ( مرة زرت بعض الدول العربية المطلة على الخليج بما يتعلق بالملف العراقي قبل 2003 وقد تحدثت مع احد امراء الخليج عن حجم وفخامة قصور صدام حسين في العراق .. فاجب الأمير بحرد : ( لماذا ، وهل قصوره اكبر من قصري ) .. ثم تلتفت الى الرئيس محذرة إياه: ( ان القصر الأبيض سيبدو كوخا متواضعا مقارنة مع قصور بعض الدول التي ستزورها ، فللعرب قصور فارهة وكذلك في بلدان عالمية اخرى .. في الفلبين هناك قصر مخصص لاحتواء احذية السيدة ماركوس .. فيما زرت قائد نيجيريا الذي تقاعد مؤخرا فوجدت قصره فخم جدا وفي حديقته زرافات ..
الرؤساء الامريكيون .. منذ 1776 دأبوا على عدم الاكتفاء بإعلان الخطط والتماس الروح .. بل استخدموا الكلمات لرسم الصور او رواية قصة لشرح ما فعلوه .. وما سيحدث لاحقا .. بدلا من الخطب الرنانة .. وفي حالة فرانكلين ابلغهم عند بداية الحرب العالمية الثانية قائلا : ( هذه الحرب ليس ككل الحروب السابقة . انها حرب في كل قارة في كل دولة في كل محيط .. انها حرب من نوع جديد .. لذا اطلب منكم اخراج خريطة العالم كله .. وتبسطوها امامكم .. وتتابعوا معا خطوط المعارك بكل مكان وتربطوا بينها ).
في الختام رسمت اولبرايت بكل صراحة نوع العلاقة بين الدول وبلدها قائلة : ( تعلمت منذ أيام الدراسة ان للسياسة الخارجية الامريكية هدف اهم يتمثل باقناع الاخرين للعمل كما نريد او بالأحرى والأفضل ان يريدوا هم ما نريد ) . وان أدوات الرئيس محدودة لتحقيق الهدف تتمثل ( بالاكراه ومقتضياته ، او الترغيب بعرض مكافئات ، او الاقناع بالمصالح والقيم المشتركة .. وعادة ما تلجا الولايات المتحدة لائتلاف هذه الأدوات في تحقيق أهدافها ) . بكل الأحوال يجب ان يتحقق الهدف باي وسيلة كانت فكل الطرق يجب ان تؤدي الى روما .
تضيف مادلين : ( البعض يوصف هذه المشهد بلعبة الشطرنج اذ تتلاعب الولايات المتحدة بحركة اللاعبين الأساسيين . لكن المشهد اقرب للبليارد منه .. اذ ان ضرب احدى الكرات يؤدي الى ضرب عدد اخر من الكرات .. ثم تختم : ( صحيح ان التقيد بقواعد الدبلوماسية والمجاملات امر ينصح به كل رئيس امريكي .. الا ان خيار الضرب كالبيارد بالعصا على راس الخصم خيار قائم ومستمر ..) .