مقالات

زيارة الأربعين .. دلالاتها وقيمها

بقلم : د .حسين الزيادي - خبير مركز تبيين للتخطيط والدراسات الستراتيجية

لا يخفى أن زيارة الأربعين تكتنز قيماً ومبادئ اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية متعددة، ولكن يجب التأكيد هنا على أن الحشود المليونية التي تتدفق بشكل تلقائي نحو كربلاء المقدسة وفيهم الطفل والمرأة والشيخ والمعاق لإحياء هذه الزيارة متجشمين عناء الطريق ومخاطره بعفوية العواطف والحماس المنقطع النظير تمثل بحق ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل بعد أن أضحت حدثاً عالمياً ذو أبعاد متعددة في كافة جوانبه، فهي محطة تعبوية تنهل من معينها الأجيال عبراً ودروساً بما تحمله من مبادئ إنسانية وقيم تخدم المسيرة البشرية التي تنشد السلام والأخوة والتعايش السلمي ، وهذا التجمع المليوني ماعاد طقساً جامداً تتخلله مراسم العزاء والحزن، وإنما و عملية تأمل في كيفية مواجهة الانحراف والظلم، ولو فهو عملية تفاعلية تكسر الجمود والسلبية في تأطير القضية الحسينية بتجلياتها المادية الحسية بعيداً عن عناصرها المتفاعلة في تسطير خلود الدم على السيف بما يخدم اهداف الامة وتطلعاتها .

بصمات جلية

لقد تركت زيارة الاربعين بصمات جلية في تاريخ الاسلام، لأنها لم تكن هامشية أو طارئة، تظهر حيناً وتختفي حيناً آخر، فهي حدث خالد بخلود واقعة كربلاء، واحاديث استحباب تلك الزيارة مازالت تحفر في ذاكرة الزمن خلودها الابدي، وقد أولى الائمة المعصومون (عليهم السلام) زيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) عناية فائقة واهتمام خاص وحثوا اصحابهم عليها واكدوا عليها في كثير من الموارد، وقد وردت في ذلك الكثير من الاحاديث والروايات عنهم (عليهم السلام) في فضل زيارة الحسين والثواب الجزيل الذي يصيبه الزائر بزيارته. تعد الزيارة الأربعينية من أهم الشعائر الحسينية المقدسة من حيث آثارها وحجمها وتفاصيلها ومصادر زوارها ، فهي مناسبة إنسانية يشترك فيها الناس باختلاف دياناتهم وطوائفهم متخذين من الحسين عليه السلام رمزا ثوريا ونبراساً للتحرر من الطغيان، ولهذه الزيارة بعداً فلسفياً عميقاً فهي تمثل اليوم صورة حية لتوق الإنسانية إلى الحرية ورفض الظلم، فضلاً عما تحمله الجموع المليونية من حب منقطع النظير لابن الرسول الاعظم سلام الله عليه، وقبل الخوض بتفاصيل هذه الأبعاد لابدّ من الإشارة أولاً إلى أن هذه الزيارة التي يشارك فيها حوالي(15) ليون زائر سنوياً قد إكتسبت شهرة عالمية خلال الأعوام العشرة الأخيرة لما تتصف به من ميزات كثيرة ومهمة قد أبهرت جميع المراقبين

وللزيارة الاربعينية آثار وفوائد روحية ومادية لايمكن الاحاطة بها، فهي مناسبة للتلاقي الفكري والتواصل المعرفي بين المسلمين، وهي تمثل نقطة تلاق بين المسلمين أنفسهم ومن شتى بقاع العالم في تظاهرة دينية تتجلى فيها مشاعر الإخاء والمحبة والوئام والتعايش والايثار والتضحية في سبيل الآخر، وقد شهدت الزيارة الاربعينية بروز حالات ايجابية من العطاء والتفاني والتضحية والكرم والضيافة.في كل عام تتجدد أيام زيارة الأربعينية التي تعتبر أساسا للقيم والمبادئ السامية التي اوصى بها الإمام الحسين (ع)، ومن ذلك نفهم أن زيارة الاربعين لا تعني تقديم الخدمات إلى الزوار المتجهين صوب كربلاء المقدسة لأحياء الشعائر الحسينية فقط، بل هي مجموعة من الدروس والعبر وتقديم الموعظة للناس اجمع، واكتساب ثقافة وأفكار جديدة من اشخاص في مجتمعات أخرى ولديهم ثقافات مختلفة، وفي هذه الأيام يصل المجتمع إلى الدرجة المثالية عبر نبذ الكراهية والطائفية وتعامل الناس بالتساوي، ولا ننسى أن من ثمرات زيارة الاربعين ذلك التلاحم الاجتماعي الذي تنتجه هذه الزيارة سواء على مستوى المسلمين او غيرهم، وتجعلهم يتمتعون بالروح الايجابية المستعدة للتفاهم، والتسامح، والتعايش، وفق رؤية متوازنة مستمدة من مبادئ أبي الأحرار الحسين (ع).

إن زيارة الاربعين هي عنوان للتعايش المجتمعي، فالناس بمختلف جنسياتهم يتجهون نحو مكان واحد إلى كربلاء المقدسة، لا تفرق بينهم الخلافات السياسية ولا القومية ولا الحزبية، يعرفون أن هدفهم الاكبر هو ري الارواح بالحب والتسامح بينهم، في زيارة الاربعين انموذج حي للتعاون، وفيها تكسر كل الحواجز بين الطبقات الاجتماعية، تجد الاستاذ الجامعي يوزع الماء مع الطفل الصغير، والشيخ العجوز مع الشباب كلهم يتسابقون على تقديم الخدمة للزوار وغير الزوار، وعلى طول شهري محرم وصفر تطرق ابوب البيوت لتقديم الطعام المجاني تعبيرا عن حب الحسين والتزاما بنهجه الذي اراد بثورته اعادة الامة الى مسارها الصحيح، فهذه الممارسات والتقاليد الاجتماعية التي نراها في هذه المدة الزمنية القصير تشد المجتمع الى بعضه، وترتقي به الى حيث الاهداف السامية للدين الاسلامي.

ثقافة الحوار

من المفيد جدا أن ننتهز هذا الجمع الكبير من المسلمين لأحياء اربعينية سبط الرسول الاعظم لنعمل على اشاعة برامج الحوار البناء والديمقراطي وجلسات ثقافية وادبية في طريق الزائرين واستغلال السرادق المنصوبة كمواكب لتلك البرامج التي تهدف الى التوعية والتثقيف، بان الشعائر ليست لطائفة معينة بل هي لكل المسلمين، وعلى الرغم توالي الأحداث والثورات والانتفاضات في تاريخ البشرية تحتفظ ثورة الأمام الحسين عليه السلام بخصائصها الفريدة وسماتها المميزة الإصلاحية، اذ أن الهدف الأساسي لثورة الأمام الحسين عليه السلام هو تغيير واقع مجتمع وفق مبادئ الدين الحقيقية، في ظل ما تعانيه المجتمعات من انحرافات، وهو ما يمكن أن نطبقه الآن في مجتمعاتنا الذي يعاني من تفــــشي الفساد في كل مفاصل المجتمع، وانحراف الشباب.

إن زيارة الأربعين عبارة عن مؤتمر إنساني عالمي لا يختص بطائفة من المسلمين دون غيرهم، بل لا يختص بالمسلمين أنفسهم دون غيرهم من بقية الديانات سواء أكانت سماوية أم أرضية، وعليه لابد من تفعيل دور الإعلام بشتى أنواعه لتعريف الوافدين إلى قبلة الأحرار أبي عبد الله الحسين عليه السلام بالجانب الإنساني العظيم ،الذي جسده النبي الكريم صلى عليه وآله وصحبه وسلم ومن بعده أهل البيت عليهم السلام والأئمة سلام الله عليهم، فذلك الجانب المشرق إذا ما سطع للإنسانية فسيكون عاملا مهما في توحيد بني البشر على أساس القاسم المشترك القائم بينهم وهو الإنسانية، فالإنسانية هي الأساس الذي يخلق مجتمعا مثاليا يجسد تجربة التعايش السلمي التي دعا إليها الإسلام دين الإنسانية، اذ إن زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام تحمل في طياتها مضامين وأبعاد سياسية ودينية واجتماعية، وهي فرصة لاستلهام العبر ورفض الظلم، وإعلاء كلمة الحق في وجه الظالم والطغاة واحقاق الحق، اضافة لتلك الابعاد فإن أربعينية الإمام الحسين عليه السلام تحمل كما هائلا من القيم الدينية والمبادئ الإنسانية السامية، من أهمها إذابة الفوارق الطبقية في المجتمع ، فالحشود المليونية جميعها تذوب في حب الإمام الحسين عليه السلام ناهيك عن تكريس ثقافة التواضع والتكافل الاجتماعي، والعمل الطوعي وهذه حالات إيجابية تسهم في بناء مجتمع متماسك يتحلى بالقـــــــيم الإنسانية السامية، وبالتالي خلق جيل واعي محب لوطنه رافضا للظلم والـــــظالمين والفاسدين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى