مقالات

*الحرب، الشيعة، إيران، أميركا وإسرائيل… بين وهم “الريفيرا” وواقع “المنطقة العازلة”*

*بقلم: ناجي علي أمهز*

لماذا انتهت الحرب؟
لو كان الشيعة يدركون ما كان يُحضَّر لهم، لآمنوا يقيناً بأن ما جرى معهم أشبه بمعجزة بسبب انشغال العالم بحربه على الارهاب كما حصل اليوم في استراليا، هذه الحرب على الارهاب أوقفت محاولة شبه مكتملة لإبادتهم السياسية والعسكرية والوجودية. فإسرائيل كانت تريد حرباً مفتوحة تنتهي بالقضاء على حزب الله وطرد الشيعة من جنوب لبنان. والولايات المتحدة، من جهتها، لا تخفي رغبتها في التخلص من حزب الله والشيعة الذين يشكّلون مصدر إزعاج دائم لمشاريعها في المشرق العربي.

حتى خصوم حزب الله في الصراع السياسي اللبناني وان كان مشروعا في اللعبة اليدمقراطية، يريدون الانتهاء من حزب الله لانه يكبح تمدد سلطتهم ويعارضهم.

وحتى منظومة الفساد اللبنانية كانت ترى في حرب كهذه فرصة للنجاة بنفسها، إذ إن الأميركيين والأوروبيين مصمّمون على فتح ملف الفساد في لبنان، وهو ملف لا يقل أهمية بالنسبة إليهم عن ملف سلاح حزب الله، بل قد يتقدّم عليه في سلم الأولويات.

ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، فحتى حلفاء وأتباع بشار الأسد من سياسيين وإعلاميين لبنانيين وسوريين عسكريين كانوا يريدون استمرار الحرب على الشيعة في لبنان، لأن أي حل سياسي شامل سيؤدي حتماً إلى تفرّغ الجميع لمحاسبتهم، وملاحقتهم، وكشف أدوارهم ومسؤولياتهم.

اضف اليهم الاخوان المسلمين والقوميين العرب الذين يرون في في استمرار انخراط الطائفة الشيعية في الحرب بسبب اعتناقها قضية تحرير فلسطين انها حديقة خلفية لهم.

وفي المجمل فان ضرب الحزب والطائفة الشيعية سيؤدي الى خروج ايران من المعادلة العربية وتتحول الى دولة لا نسمع عنها الا كما تسمع الطائفة السنية بما يجري في باكستان وافغانستان.

بمعنى اوضح الجميع تقاطعت مصالحه على ضرب حزب الله والطائفة الشيعية الا امثالنا نحن الشيعة الذين كنا نعمل لتجنب الطائفة هذا المصير الاسود.

اضافة ان الإجابة لا تكمن في ميزان القوى العسكري بقدر ما تكمن في عامل الوقت. فالولايات المتحدة لم تعد تملك ترف إطالة النزاعات، ولا سيما في جنوب لبنان، حيث يتقاطع هدفان: أمريكيٌّ يسعى إلى إنهاء الملفات العالقة بسرعة، وإسرائيليٌّ يريد حسم أمن حدوده الشمالية بصورة نهائية.

إسرائيل، بعد تجربة “طوفان الأقصى”، اتخذت قراراً لا لبس فيه: لن تقبل بعد اليوم بوجود أي قوة معادية، أو حتى غير مضمونة، على مسافة تقل عن عشرة كيلومترات من حدودها كي لا يتكرر “كوفان الاقصى”. وهذا شرط أمني غير قابل للتفاوض، ولا تستطيع واشنطن تجاوزه، كما لا تستطيع في الوقت نفسه الاستمرار في حرب مفتوحة تستنزف الوقت وتغرق المنطقة بمزيد من الفوضى، من دون أفق سياسي حقيقي.

من هنا، وُلد ما يمكن تسميته بـ”الاقتراح الأميركي”:
منطقة الجنوب تُقدَّم في الخطاب على أنها اقتصادية وتنموية، لكنها في جوهرها منطقة عازلة أمنياً، يُمنع فيها أي وجود يُصنَّف معادياً لإسرائيل. في هذا السياق، لا يمكن فصل استمرار الاغتيالات الإسرائيلية في الجنوب، ولا سيما جنوب الليطاني، عن هذا المشروع؛ فهذه العمليات ليست ردود فعل ظرفية، بل إجراءات تمهيدية تهدف إلى “افراغ” المنطقة من أي عنصر قد يشكّل خطراً مستقبلياً، تمهيداً لإطلاق ما يُسمّى “المنطقة الاقتصادية” وجذب الاستثمارات في مجالي النفط والسياحة.

نحن، عملياً، أمام مشهد جديد يعيد رسم لبنان وفق منطقتي نفوذ أميركيتين واضحتين:
الأولى، جنوب الليطاني، وتُدار كمنطقة اقتصادية – أمنية يُفرض فيها “النظام” بالقوة والنار والرقابة المشددة.
والثانية، جبل لبنان والشمال، وتُدار كمنطقة سياسية – إدارية يُفرض فيها النفوذ عبر السياسة والقوة الناعمة.
الهدف العميق لهذا التقسيم ليس الاستقرار بحد ذاته، بل السيطرة والإدارة والاستثمار، ولا سيما في البلوك النفطي رقم 4 المقابل لجبل لبنان، والبلوك رقم 9 في الجنوب.

هذا المشهد لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي. فقد راقبته وكتبت عنه مراراً قبل عام 2022. ففي مقال نشرته بتاريخ 31 تموز 2021 بعنوان: “ترددات انفجار 4 آب ونظام لبنان الجديد”، أشرت بوضوح إلى أن الغرب سيتجه نحو اعتبار جبل لبنان “منطقة آمنة”، وأنه سيعمل على إخراج القوى المناهضة له منها، تحت ذرائع أمنية وسياسية. وكتبت أيضاً عن تمدد النفوذ التركي في الشمال، وهو ما نراه اليوم بوضوح في عكار وطرابلس، حيث باتت غالبية واسعة تسير ضمن فلك التاييد للشرع، بما يؤكد دقة تلك القراءات.

في ظل هذه الرؤية، وفي عز قوة الشيعة وامتداد محور المقاومة، لم أكن أتصور أن يدخل حزب الله في مواجهة عسكرية، ولو جانبية، مع إسرائيل. فالجميع كان ينتظر شرارة واحدة لتطبيق هذا السيناريو: تحويل لبنان إلى نموذج شبيه بليبيا، حيث تتقاسم القوى الدولية النفوذ والثروات، أميركياً وتركياً من جهة، وفرنسياً من جهة أخرى. إلا أن ما يبدو اليوم هو أن الحزب وقع في فخ تضليل سياسي وإعلامي واسع، وربما ساهمت الحرب الروسية – الأوكرانية في تسريع هذا المسار، عبر إشغال موسكو وإخراجها من المياه الدافئة على حوض المتوسط.

ما كشفه رضا الباشا حول دور جهات داخل القيادة السورية في تسهيل اغتيال إيرانيين، وحتماً لبنانيين من حزب الله، يشكّل زلزالاً حقيقياً. زلزال يضع الشيعة أمام سؤال موجع: كيف غابت عنهم هذه الوقائع؟ وهل يُعقل أن إعلاميين وسياسيين موالين لبشار الأسد، ومسيطرين على إعلام “المحور”، لعبوا دوراً أساسياً في تضليل الشيعة، عبر افتعال أزمات داخلية مع المجتمع اللبناني والعربي، لعزلهم واستثمارهم إلى أقصى حد، خدمةً لمصالحهم ومصالح النظام السوري، حتى لو كان ذلك على حساب الحزب والطائفة نفسها؟

وهل يمكن فصل هيمنة هؤلاء على الإعلام عن تأثيرهم على السفارة الإيرانية في لبنان، التي بدت وكأنها أسيرة فكر من هؤلاء من قوميين ويساريين ومعزولة عن الواقع اللبناني الأوسع؟

الأخطر من ذلك أن هذا التعتيم لم يقتصر على السياسة والاعلام.

فأنا، على سبيل المثال، لم يُسجَّل علي يوماً موقف عدائي ضد إيران أو الحزب، لكنني منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً أواجه إعلام محور المقاومة وروايته السياسية التي ساهمت في تأليب الرأي العام ضد الشيعة.
غير أن معيار القبول أو الإقصاء بالنسبة لكتاب التقارير عند النظام السوري، لم يكن ما تخدم فيه الطائفة ومن خلالها الوحدة الوطنية اللبنانية، بل ما تخدم فيه بشار الاسد ولو على حساب الطائفة، وامثالنا ضد النظام السوري منذ عقود.

كانت النتيجة فشلاً سياسياً وإعلامياً لحزب الله، وفشلاً موازياً لإيران في بناء نفوذ سياسي حقيقي داخل لبنان، رغم كونها قوة إقليمية كبرى.

ومن المفارقات أن هذه الفئة المهيمنة على الخطاب الإعلامي والسياسي غير قادرة التغيير لانها شريكة لبشار الاسد. وقد سُئلت مراراً لماذا لم أشارك في الاحتفال التأبيني للحاج محمد عفيف في السفارة الإيرانية. الحقيقة أنني لست محسوباً على حزب الله ولا على إيران، لكن لا أحد ينكر مدى تأثري برحيله. وعندما سألت عن سبب عدم دعوتي، بدا واضحاً أن هناك من “يُفلتر” الأسماء والدعوات. هذا الأمر ترك في نفسي عتباً كبيراً على إيران، رغم أنني دافعت عنها مراراً في نقاشات سياسية عميقة، حتى مع نخب مارونية كانت ترى أن “الفارسي بارع في نسج السجاد، لكن العثماني أشطر في صناعة السلطة”. واليوم، يبدو أن هذا الكلام لم يكن بلا أساس.

لقد دفع الشيعة أثماناً باهظة، وما هو أخطر أن المرحلة المقبلة ستكون سياسية أشد فتكاً من الحرب العسكرية.
أما جنوب الليطاني فانه متوقع خلال اشهر تضع امريكا يدها عليه ، من خلال “منطقة ترامب الاقتصادية” كغطاء أنيق لمشروع عزل واضح، يرتكز على ثلاث دعائم:
1. الأمن عبر الاقتصاد: إنشاء منطقة اقتصادية خاصة، هدفها الفعلي نزع سلاح حزب الله وتأمين الحدود.
2. التهجير المقنّع: تفريغ عشرات القرى الحدودية من سكانها وتحويلها إلى مناطق صناعية سياحية، بما يخلق حزاماً أمنياً بلا احتلال مباشر.
3. النموذج الغزّي: تكرار فكرة “السلام الاقتصادي”، وتحويل السكان من مقاومين إلى عمال ضمن رفاهية مضبوطة وتمويل مشروط.

الخاتمة
يقف لبنان اليوم بين مطرقة الضغوط الدولية وسندان الانقسام الداخلي. بينما يوضع الشيعة بين حجري الرحة، ويواجهون تحدياً وجودياً يتمثل في محاولة إعادة هندسة الجنوب ديموغرافياً وسياسياً، وفصله عن هويته المقاومة.
الامر ليس متعلق بمقدار نجاح مشروع الرئيس ترامب، لكن المؤكد أن ما يُرسم للبنان هو تقسيم وظيفي خطير: جنوب للاستثمار الأمني، وشمال للنفوذ السياسي. وعلى الطائفة الشيعية، اليوم قبل الغد، أن تنظف بيتها الداخلي من “كتبة التقارير” والمضللين، قبل أن يُغلق باب المراجعة نهائياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى