
تُولد الدول كما يُولد الإنسان، من رحم المعاناة والتاريخ، وتتشكل ملامحها الأولى من تراكم التجارب والدماء والأحلام. لكنها، مثل الإنسان أيضاً، لا تولد كاملة، بل تنمو وتتطور وتتعلم من أخطائها، وقد تشيخ قبل أوانها إن عاشت بلا وعيٍ ذاتي ولا ضميرٍ وطني.
في فلسفة العمر السياسي، تُشبه الدولة جسداً حياً، يتكوّن من أعضاء ومراكز حسّ، تتفاعل فيما بينها لتصنع الحياة.
الاقتصاد هو قلب الدولة، ينبض بالثروة والعمل والإنتاج، فإن اختنق، خمدت حرارة الحياة، وفقدت الأمة قدرتها على الحركة.
أما الجيش والأجهزة الأمنية فهما رئتاها، تستنشق بهما الأمان وتزفر الخطر، وبدونهما تختنق في غبار الفوضى.
والشعب هو المعدة التي تهضم السياسات وتغذي الجسد بما يُلقى إليها من وعود أو واقع، فإن أُطعمت ظلماً وفقراً، تسمم الجسد، وإن غذيت بالعدالة والكرامة، أزهرت الأعضاء كلها.
الخارجية هي بصر الدولة، ترى بها العالم وموقعها فيه، بينما التخطيط هو بصيرتها التي تبصر بها الغد.
والمخابرات أنفها الذي يشم الأخطار قبل وقوعها، والصناعة يداها اللتان تبنيان، والزراعة ساقاها اللتان تثبتانها على الأرض وتربطانها بخيراتها.
غير أن ما يُكمل الجسد ليس الأعضاء فحسب، بل العقل الذي يديرها — وذاك هو العلم والعقلاء وطلبة المعرفة. فإن تعطّل هذا العقل أو استُبدل بجهلٍ وصخبٍ سياسي، تحوّلت الدولة إلى كائن فاقد للوعي، يتحرك بلا وعيٍ ولا اتجاه.
أما الفساد، فهو المرض العضال الذي يتسلل إلى الجسد بلا ضجيج، كداءٍ مزمن ينهش الأنسجة من الداخل. إنه السلّ السياسي الذي لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يترك آثاراً مدمّرة على كل مفصل من مفاصل الدولة.
فحين يصاب القلب بالفساد، ينهار الاقتصاد.
وحين تصاب الرئتان، يختنق الأمن.
وحين تتعفن المعدة، يتسمم الشعب.
وحين يختلّ البصر والبصيرة، تُقاد الدولة إلى الهاوية.
أما الحكومات، فهي ليست الروح، بل العمال الذين يعتنون بالجسد، ينظفونه، ينظمون دقاته وتنفسه. فإن أدوا واجبهم بصدق، عاش الجسد متماسكاً. وإن أهملوا، نقلوا الأوبئة إلى داخله، وأصابوه بالشلل والانحلال.
وهكذا، تموت الدول كما يموت الإنسان — لا دائماً برصاصة أو غزوٍ، بل أحياناً بمرضٍ داخليّ اسمه اللامسؤولية، أو نقص في المناعة الوطنية، أو اختناقٍ بالفساد الذي يغلق مجاري الدم والحياة.
الدولة التي لا تجدد خلاياها الفكرية والإدارية، تموت ببطء، حتى وإن ظل جسدها قائماً. فالحياة السياسية لا تُقاس بعمر الأنظمة، بل بقدرتها على النمو الذاتي، والتجدد الأخلاقي، والإحساس بالمسؤولية تجاه نفسها وتجاه شعبها.
العلاج: طريق الشفاء من أمراض الدولة
كما لا يُشفى الجسد بالمسكنات المؤقتة، لا تُعالج الدول بالشعارات والخطب، بل بإعادة بناء جهازها المناعي — ونعني به منظومة القيم والضمير الوطني والمؤسسات الرقابية والقضائية المستقلة.
فالمناعة هي التي تمنع تسلل الفساد قبل أن يتحول إلى ورم خبيث في مفاصل الحكم.
إن أول علاج لمرض الدولة هو الاعتراف بمرضها؛ فالدولة التي تنكر عِلَلها لا تُشفى، تماماً كما لا يشفى مريض يرفض تشخيص الطبيب. يلي ذلك إصلاح القلب — أي الاقتصاد — بتطهيره من المحسوبية والاحتكار، ثم تنظيف الرئتين — أي الأمن والمؤسسة العسكرية — من الولاءات الضيقة، وإعادتهما إلى وظيفة الحماية لا الحكم.
ويأتي بعد ذلك تغذية المعدة — أي الشعب — بعدالةٍ اجتماعية وتعليمٍ حقيقي، لأن الجسد الجائع لا يفكر، والجائع لا يدافع عن وطنه إلا بقدر ما يدافع عن لقمة عيشه.
ثم يجب صقل البصر والبصيرة — الخارجية والتخطيط — برؤية وطنية متحررة من عقد التبعية، ليبقى البصر نافذاً والبصيرة حية.
أما أنف الدولة — المخابرات — فينبغي أن يشمّ روائح الفساد قبل أن يشمّ رائحة الأعداء، فخطر الداخل لا يقل عن خطر الخارج.
ولابدّ أن تُعاد القوة إلى اليدين والساقين — الصناعة والزراعة — لتستعيد الدولة قدرتها على الوقوف والمشي والعمل بإرادتها الذاتية.
لكن العلاج الأعمق، والأكثر جذرية، هو في تنقية الروح الوطنية من الأنانية والجهل، وتجديد خلايا العقل بالعلم والفكر. فالأمة التي تكرم علماءها تحيا، والتي تهينهم تموت.
وختاماً، تبقى الحقيقة الكبرى:
أن الدول لا تموت لأنها ضعيفة، بل لأنها تفقد الوعي بذاتها.
ومن يستعيد وعيه، يستعيد حياته، ولو كان على حافة الموت.