
من من أبناء جيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات لم تكن له حكاية مع شارع الرشيد؟ من لم تطبع في ذاكرته صورة السينمات المضيئة ليلًا، أو مطعم “أبو يونان” الذي تعبق أجواؤه برائحة الأطعمة الشهية، أو المحلات التجارية التي تزيّن واجهاتها بالزجاج العريض والبضائع المختلفة القادمة من كل مكان؟ كان الشارع يومها شرياناً ممتداً من قلب بغداد إلى وجدان أبنائها، ينبض بالحياة، يكتب على أرصفته أثر كل جيل، ويحمل في ذاكرة كل عابر ذكرى لا تمحى.
الرشيد كان فضاءً واسعاً، تلتقي فيه الأقدام والقلوب. هناك، عند مقهى الزهاوي، جلس المتقاعدون يتجادلون في السياسة ويتحدثون عن أحوال البلاد، وعلى مقربة منهم في حسن عجمي كان الأدباء واليساريون يخطّون مقالاتهم ويصوغون أحلامهم. أما مقهى البرلمان فكان يزدحم بالمفكرين وروّاد النقاش، بينما شارع المتنبي امتدّ بالمكتبات التي تدلّت كتبها على الأرصفة كثمار بغداد الناضجة، تُباع وتُشترى وكأنها زاد الأرواح. وبين المارة كانت تتعالى أصوات الباعة: من ينادي على الصحف، ومن يعرض الكتب، ومن يلوّح بأكواب عصير أو أرغفة خبز حارة تفوح منها رائحة الطحين والدخان الممزوج برائحة الفحم.
وفي المساء، كانت العائلات تتجمع أمام دور السينما: الخيام، روكسي، ريكسي، الزوراء. أضواؤها تسبق شاشاتها، وصالاتها تحتضن ضحكات الأطفال، وهمسات العشاق، وتصفيق الجمهور لأبطال الشاشة. وعلى مسافة قريبة، كان خان مرجان بماضيه العباسي يفتح أبوابه، فيما مطاعم الوجبات السريعة لا تهدأ من زحام الزبائن، ومطعم “الشط” في حافظ القاضي على ضفاف دجلة يستقبل العمال والناس البسطاء. أما المقاهي، فقد ظلّت تدور فيها صوانٍ نحاسية تحمل استكانات الشاي بلا توقف، يمرّ بها السقاة بين الطاولات كأنهم جزء من إيقاع المكان، مع طقطقة الملاعق على الزجاج الرقيق وصوت “استكان” يلتقي بآخر. وفي بعض زوايا الشارع، كان هناك فندق تستقر فيه الكاتبة العالمية أغاثا كريستي، فيما تنتشر بيوت قديمة سكنها مسؤولون عراقيون سابقون، لتضيف إلى المكان طابعاً آخر من الحكاية.
الرشيد كان مدينة داخل مدينة، جامع السلطان علي ووجود كنيسة في منطقة المربعة خلف أورزدي باك وسينما الزوراء، وفي الأزقة القريبة يتشابك المسلمون والمسيحيون في حياة يومية متجاورة. في الصيف، كان الناس يتصببون عرقاً تحت شمس بغداد الحارقة التي لا ترحم، ومع ذلك لا يتوقفون عن شرب الشاي الساخن في مشهد يكاد يكون أسطورياً. وفي الشتاء، كان الضباب يهبط على الأرصفة، وتلتصق الأكتاف طلباً للدفء، بينما الأفران تفوح منها رائحة الخبز الطازج وكأنها تمنح المارة حياة جديدة. لم يكن الشارع يعرف التعصب، بل كان يعرف التعدد والاختلاف، حتى بدا كلوحة فسيفسائية هائلة، كل حجر فيها يضيء بلون خاص، لكن المشهد يكتمل بانسجام أخّاذ.
ثم جاءت سنوات ما بعد 2003، حاملةً معها ما حملت من ألم. غابت الأضواء وانطفأت المقاعد، وتحولت البنايات إلى جدران مثقوبة بالرصاص. لم يعد الباص رقم 4 يعبر، ولم تعد الضحكات تملأ السينمات أو الأسواق. صار الرشيد ساحةً للخوف، ومسرحاً للخراب، كأنه ذاكرة جريحة أراد البعض أن تُطوى قسراً. ومع ذلك ظلّ حاضراً في القلوب، يقاوم النسيان، مثل شيخ كبير يروي الحكايات ولا يسمح لأحفاده أن ينسوا.
واليوم، تعود أنفاس الحياة إلى الرشيد عبر مبادرة “نبض بغداد” التي أطلقتها الحكومة، استعداداً لاختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية لعام 2025. الأرصفة تُرمَّم، المقاهي القديمة تُفتح من جديد، والبنايات التراثية يُعاد إليها بهاؤها، وكأن المدينة قررت أن تستعيد قلبها المفقود. ما يجري ليس مجرد ترميم لحجر، بل إحياء لهوية كاملة، واستعادة لذاكرة أجيال عبرت وتركت آثارها، في ظل اهتمام خاص من حكومة الرئيس محمد شياع السوداني، التي أولت الشارع عناية استثنائية بوصفه رمزاً للعاصمة ووجهًا حضارياً لها.
إن شارع الرشيد ذاكرة لا تنطفئ، لأنه ليس ملكاً لجيل دون آخر، بل لكل من مشى على أرصفته، سمع أصوات باعته، استنشق رائحة خبزه، شرب قهوته، شاهد فيلماً في دور السينما، أو تسوّق في أسواقه. إنه سجلّ حيّ لبغداد وهي تتأرجح بين الفرح والانكسار، وهو وعد بأن المدن التي تعانق التاريخ لا تموت، بل تنهض دائماً لتقول لأبنائها: هنا كنا، وهنا سنظل.