Uncategorized

انكسار الهيبة

كتب رياض الفرطوسي

حين تُقصف السماء لا تتساقط الصواريخ فقط، بل تنهار معها الصور المزيفة للقوة. في هذه الحرب، لم تُهزم إيران، ولم تنتصر إسرائيل، لكن الذي انكسر حقاً هو وهم “الهيبة” الذي روّجت له تل أبيب لعقود، وسوّقته واشنطن كقاعدة استراتيجية لا تُمس. إننا أمام لحظة تاريخية لا تُقاس بحجم الدمار فقط، بل بعمق التحوّل في موازين الردع، وسقوط الرواية القديمة للهيمنة. في هذا المقال سنتتبع ملامح هذا الانكسار.

لم تكن السماء هذه المرة مجرد مجال للقتال. لقد تحوّلت إلى مرآة تعكس خلل العالم، وتكشف زيف التفوق، وتعري الحقيقة المجردة التي حاولت إسرائيل طويلًا طمسها تحت رماد أسلحتها. الحرب التي أرادت لها تل أبيب أن تكون استعراضاً صاخباً لانتصار محسوم، تحوّلت إلى كابوس استراتيجي لم يكن في الحسبان. فإيران، التي اعتادت أن تُقاتل بالحذر، فجّرت المفاجأة، لا بالتصعيد وحده، بل بإعادة تعريف طبيعة الردع وحدود التوازن.

لم تعلن إيران الحرب، لكنها كانت مهيأة لها. ولم تنتظر أن تُستدرج إلى الأرض، بل نقلت المواجهة إلى قلب السماء التي طالما توهّمت إسرائيل امتلاكها حصرياً. صواريخ ذكية عبرت القباب الحديدية كما لو كانت تمرّ عبر خطابٍ متصدّع. مراكز بحثية تحولت إلى ركام. بيوت وعمارات في تل أبيب وحيفا لم تعد تصلح للنشيد الوطني ولا لتصوير الجنود العائدين من الجبهات. وها هو مركز الأبحاث القومي الإسرائيلي نفسه يعترف بأن 73٪ من السكان لم يعودوا يصدقون ما تروّجه الحكومة عن «نجاحات» وهمية. الحقيقة صارت أقوى من الإعلام.

لقد تورّطت الولايات المتحدة، كما تفعل دائماً، في لحظة رعناء من الحسابات الخاطئة. تصوّر الرئيس دونالد ترامب أن الحسم لن يتجاوز ساعات. أن طهران سترفع الراية البيضاء، وأن صورته ستُعلق في قلب القدس المحتلة إلى جانب بنيامين نتنياهو في احتفال المنتصرين. لكن إيران، بخبرتها التاريخية، لم تقاتل بالطريقة التي يعرفها الغرب. بل قاتلت كما يُقاتل من لا يراهن على أحد، ولا يثق في أحد، ولا يكتب تاريخه إلا بمداد الرفض.

لقد شاركت واشنطن في الخديعة. أو هكذا ظنّت. فاستخدمت المفاوضات ستاراً لتغطية قرارٍ إسرائيلي بالحرب. وطالبت الإيرانيين صراحةً بإسقاط مرشدهم الأعلى، وكأنها تُعيد كتابة سيناريوهات العراق وسوريا بنسخة جديدة. لكنها لم تنتبه إلى أن الزمن تغيّر، وأن الشعوب المتورطة في الموت اليوم لم تعد كما كانت أمس.

حين هدّدت أمريكا بالتدخل، تراجعت تحت ضغط الداخل. الأصوات الرافضة اشتعلت من قلب واشنطن، لأن إيران لم تُعلن الحرب على أمريكا، ولأن البوصلة بدأت تنحرف، لا سياسياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً. في المقابل، صواريخ إيران بدأت تكشف هشاشة قواعد اللعبة، ووضعت واشنطن أمام سؤال لم يكن في الحسبان: هل تخاطر بحرب شاملة لمجرّد إنقاذ صورة إسرائيل؟ وهل تجرؤ على فتح أبواب الجحيم في الخليج من أجل أن يبتسم نتنياهو في مؤتمر صحفي؟

المعادلة بدأت تتغيّر. لم تعد إسرائيل تملك حصرية المبادرة. التفوق العسكري لم يعد امتيازاً خالصاً، والدعم الأميركي لم يعد كافيًا لتغطية ارتباك المؤسسة الأمنية في تل أبيب. إننا أمام لحظة مفصلية يتقاطع فيها الفشل العسكري مع الفضيحة السياسية. فهل بقي شيء من الرواية الإسرائيلية؟ من تلك القصة التي تقول إنهم دائماً في موقع الدفاع، وإنهم الأكثر التزاماً بالقانون الدولي، وإنهم لا يقتلون المدنيين؟ هل يمكن حقاً أن تُقنع العالم بأن آلاف القتلى في غزة مجرّد «خسائر جانبية»؟

لقد تجاوزت إيران مرحلة المقاومة العمياء، ودخلت لعبة الحرب بتخطيط ووعي ومعرفة. صحيح أنها لم تَنتصر بعد، لكن الأصح أن إسرائيل لم تعُد قادرة على الادّعاء بأنها انتصرت. والتاريخ لا يكتبه من لم يخسر فقط، بل من أفشل مشروع الآخر.

في عمق هذه الحرب، تُمتحن مفاهيم جديدة: ما معنى الردع؟ وما حدود التفوق؟ ومن يحسم المعركة في زمن الطائرات المسيّرة والصواريخ فوق الصوتية؟ وهل لا تزال القواعد العسكرية كافية لضمان الأمن؟ أم أن هناك زمناً جديداً يوشك أن يولد من تحت الأنقاض، ومن فوق السطوح المحترقة، ومن بين جثث الأطفال في غزة والصرخات المكبوتة في طهران وتل أبيب على حد سواء؟

العالم يتابع، لكن لا أحد يستطيع التكهّن بالنهاية. الكل يتكلم عن النصر والهزيمة، لكن من يُحدد معايير النصر؟ من الذي يربح حقاً: من يُسقط الأبراج، أم من يُسقط الرواية؟ من يحتفل بالعدّاد الإلكتروني للضحايا، أم من يُربك المعادلة ويُجبر الخصم على مراجعة عقيدته القتالية؟ لقد دخلت الحرب مرحلة اللايقين، وهو أكثر ما يُرعب العدو الذي لا يحتمل المفاجآت.

لا ريب أن حرب اليوم قد تُفتح على أبواب أوسع. هناك حديث خافت عن السلاح النووي. وهناك إشارات مريبة من الجانب الإيراني إلى مفاجآت قادمة. فهل تكون الخطوة التالية تجربة نووية تُقلب الطاولة تماماً؟ وإن حدث ذلك، فمَن الذي يملك حق الرد؟ ومن الذي يتحمّل فاتورة العواقب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى