قبل ثلاثة أشهر، بدأت الوحدة 8200 (SIGINT) التابعة لاستخبارات الجيش الإسرائيلي، التحضير لموجة دعائية مهمة جديدة، موضوعها “التغيير القادم في الشرق الأوسط”، أو “الشرق الأوسط الجديد بقيادة إسرائيل والسعودية” برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يقوم على معادلة أفول قوة الشيعة وانهيار محور المقاومة الشيعية وحلفائه السنة، مقابل صعود ما يسمى بالإسلام العلماني الليبرالي المسالم، كما سبق لمؤسسة راند الأمريكية أن أسست لمعالمه.
وما لبثت هذه الموجة الدعائية أن انطلقت، بعد أن أعلن رئيس وزراء اسرائيل نتنياهو عن موضوعها صراحةً في 28 أيلول/ سبتمبر الماضي، وذلك بعد يوم واحد من اغتيال السيد نصر الله، حين بشّر بأن إسرائيل تعمل على تنفيذ مشروع شرق أوسط جديد يخضع لرؤيتها. وكان هذا الإعلان بمثابة كلمة السر لشبكات الدعاية الصهيونية والأمريكية والسعودية، لتنطلق بقوة كبيرة ومنهجية وبصفوف متراصة، للترويج للموضوع.
وراح العملاء الدعائيون يروجون لهذا الشرق الأوسط المتخيّل، من خلال القنوات الفضائية والصحافة ومواقع الانترنيت العربية والعبرية والأمريكية، وبات الشغل الشاغل لبعض الإعلاميبن والكتّاب والمحللين السياسيبن والعسكريبن اللبنانيين والعراقيين والسعوديين والمصريين والأردنيين والإماراتيين والبحرانيين والسوريين، المعروفين بعلاقاتهم بالمؤسسات الإسرائيلية والسعودية، وبالسفارات الأمريكية والبريطانية، فضلاً عن معممين سنة وشيعة، يحملون التوجهات نفسها. كما أخذ بعض المعارضين الشيعة لمحور المقاومة الشيعية، يرددونها عن قصد أو سذاجة، للاستدلال بها على صحة مواقفهم.
والحقيقة أن مقولة نتنياهو بشأن مشروع إسرائيل لتأسيس شرق أوسط جديد، هو مجرد مقولة دعائية، وليس مشروعاً فعلياً؛ لأن هذه المقولة لا تستند الى أية معطيات واقعية، ولا توجد عليها أية مؤشرات حقيقية، بل ولا تعتقد إسرائيل نفسها بتوافر الإمكانيات لديها ولدى راعيتها أمريكا وحليفتها السعودية وأي من حلفائها العرب، لتنفيذ هكذا مشروع، فضلاً عن انعدام فرص نجاحه؛ بالنظر للتصاعد المطرد لقوة المحور الشيعي، ورصانة دعائمه في المواجهة، والخبرات والتجارب الكبيرة التي اكتسبها خلال السنة الأخيرة، ومنعه خلق ثغرات في موازين القوة، رغم خسارته لقيادات مهمة، في مقدمتهم الأمين العام لحز ب الله.
وتدخل مقولة نتنياهو وحلفائه، في إطار الحرب النفسية التي تهدف إلى ترهيب الحواضن الاجتماعية لمحور الصعود الشيعي، وخلق فجوة بينها وبين حكومات المقاومة وأحزابها وفصائلها، ودفع هذه الحواضن للتمرد على ركائز القوة فيها. أي أن الرهان الحقيقي لأمريكا وإسرائيل والسعودية ليس على تدمير المحور الشيعي عسكرياً وسياسياً، لأنها تعلم بعدم إمكانية الانتصار عسكرياً وسياسياً على المحور الشيعي، بل رهانها يقوم على دفع الحواضن الاجتماعية الشيعية للانقلاب نفسياً وإعلامياً وسياسياً على قياداتها وكياناتها السياسية والدينية. وقد نجحت الدعاية الإسرائيلية والأمريكية والسعودية بالفعل في ترهيب جزء من هذه الحواضن، وجعلته يتناقل كثيراً من إشاعاتها وترهيباتها، بل نجحت تلك الدعاية في زيادة رعب بعض الأصوات الشيعية المرجفة. ويعود هذا النجاح إلى ضعف الأداء الإعلامي والثقافي والتوعوي للمحور الشيعي خلال الحرب الحالية، مقابل السطوة الإعلامية الأمريكية والإسرائيلية والسعودية.
أما بعض التيارات الطائفية والعلمانية في البلدان العربية، بما فيها القومية والإسلامية؛ فقد تلقفت مقولة نتنياهو وتبشير السعودية بها؛ لتحوِّلها إلى استراتيجية لحاضرها ومستقبلها، ولتتصرف على أساسها من أجل تحقيق مكاسب سياسية في لبنان والعراق واليمن؛ مستغلةً انشغال المقاومة في الحرب مع اسرائيل وأمريكا، رغم أن الحكماء والأذكياء في هذه التيارات يعلمون أن مقولة التأسيس لشرق أوسط أمريكي إسرائيلي سعودي يلغي وجود المحور الشيعي، وينهي مسار صعوده؛ إنما هي أوهام وتمنيات وآمال ليس إلّا.
ومن خلال مراقبة منهجية دقيقة لتفاصيل واقع منطقة الشرق الأوسط، ولتقارير مراكز الدراسات الغربية المتخصصة، سيتضح للباحث الموضوعي؛ بأن ما يحصل وسيحصل في الشرق الأوسط، هو على العكس مما تحدث عنه نتنياهو وما تروج له الدعاية الأمريكية الإسرائيلية والسعودية؛ فالمرحلة الحالية تمثل مخاضاً صعباً جديداً للنهضة الشيعية الشاملة، يشبه مخاضاتها المؤلمة في الأعوام 1979، و1989 و1992 و2003 و2006 و2014، وهو ما تعرفه الدوائر المخابراتية الأمريكية والإسرائيلية والسعودية جيداً، وتعرف أيضاً أن محور الصعود الشيعي يعيش مساره المعتاد، مع طاقة دافعة حذرة أكبر.
ومن الطبيعي أن يكون المخاض مؤلماً، وينطوي على خسائر وسلبيات، ويأخذ وقتاً، لكن الوليد سيمثل خطوة كبرى إلى الإمام. وهو ما ظل يتلمّسه العالم والشيعة أنفسهم، بعد نهاية كل مخاض من المخاضات المؤلمة الصعبة التي عاشها محور الصعود الشيعي، منذ العام 1979. وبالتالي؛ فإن الانطلاقة الشيعية الجديدة لا تفاجيء مراكز صنع القرار الغربي ودوائرها المخابراتية ومراكز ابحاثها ولن تفاجأها، بل ستفاجيء عملاءها، وخاصة العملاء الدعائيين.
ولعل المقترحات الأمريكية الأخيرة التي قدمها المفاوضون الأمريكيون لإيران، عبر قطر وعمان، توضح وعي أمريكا بقوة الواقع الشيعي الحالي ورصانة حركته؛ إذ أكد المفاوضون الأمريكيون على أن أمريكا مستعدة لتنظيم سلة واحدة من الضمانات الرسمية المتبادلة، تتضمن رفع جميع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن إيران، وعقد شراكة اقتصادية امريكية أوروبية إيرانية، وضمان حضور إيراني سياسي أكثر قوة في الشرق الأوسط، وغض النظر عن المشروع النووي الإيراني، وعدم التدخل بأي نحو في الشأن الداخلي الإيراني، مقابل تعهد إيران بوقف كل أشكال الصراع مع إسرائيل، ووقف دعم الفصائل الفلسطينية، ونزع سلاح حزب الله في لبنان وفصائل المقاومة في العراق وجماعة أنصار الله في اليمن، ووقف تزويد روسيا بالسلاح.
وقد كررت طهران رفضها القاطع، وطالبت بأن تقتصر المفاوضات على البرنامج النووي، وهي تعلم أن برنامجها النووي إنما هو ذريعة تتخذها أمريكا، وليس هدفاً بذاته؛ لأن الهدف الأمريكي الأوروبي من وراء عقوباتهما على إيران ومحاصرتها، إنما هو أمن إسرائيل ومستقبلها، وليس البرنامج النووي ولا الحريات في إيران ولا نفوذها في الشرق الأوسط. ومقابل إصرار المفاوض الأمريكي على موقفه؛ فإن إيران أبلغت قطر وعمان وقفها المفاوضات غير المباشرة مع أمريكا أول أمس (12 تشرين الأول/ أكتوبر)، وهو ما فاجأ الأمريكيين والوسطاء بشدة.