بحوث ودراسات

تأملات فلسفية في عنف راهننا النّاعم.. قراءة في كتاب (( العنف تأملات في وجوهه الستَة ))

أحمد القاسمي

ـ1 ـ

يستهل سلافوي جيجيك كتابه “العنف، تأملات في وجوهه الستة” بهذه الحكاية، يقول: “ثمة قصة قديمة عن عامل اشتبه في أنه سارق؛ إذ كانت عربته التي كان يدفعها أمامه تُفتش كل مساء عند خروجه من المصنع تفتيشا دقيقا، لكن الحراس أخفقوا في العثور على أي شيء. ففي كل مرة كانت العربة فارغة تماما. وأخيرا كُشف اللغز. كانت العربات نفسها هي ما يسرقه العامل”. ولأنه يجعل من العنف موضوعا للدّراسة ولأنه يعلمنا في ثنايا الأثر أنّ الرعب الهائل الناجم عن أعماله والتعاطف العميق مع ضحاياه يشكلان حتما نوعا من الإبهار الذي يمنعنا من التفكير، سنحاول أن نتجاوز الإبهار في هذه الحكاية وأن نحثّ عقولنا للبحث في مغزاها. فنتأمل صورا أخرى للعنف كنّا ننخدع بها ونعتقد النعومة، كما يريد لنا الفيلسوف. فننتهي عندها إلى أنّ هذا العامل كان يمارس عنفه من خلال التظاهر بالامتثال إلى سلّم القيم المشتركة.

ولن يخلو اكتشافنا هذا بخيبة ظننا من تقديراتنا الأولى. فقد اعتقدنا لوهلة أنه بريء وأن أولئك الذين يفتشونه يوميا يتعسفون عليه.

ـ 2 ـ

على غرار عامّة الفلاسفة إذن، يلجأ الفيلسوف السياسي السلوفيني، إلى القصّ لتبسيط الفكرة المجرّدة التي يعاني المتقبّل في تمثّلها ربّما، ولكنه وهو يسرد ويُلبس المجرّدَ لباس المجسّد والمحسوس يجعل المعنى منفتحا على التأويلات الكثيرة ويحفّز عقل المتقبّل ليخوض في مغامرة التأويل، فيذهب في ما يراه مناسبا من دلالاتها: بديهي أن أبعاد الحكاية تتجاوز المصنع والعمّال والعربة.

فليست هذه العناصر غير استعارات لحياتنا بحيث يمثل المصنع المجتمع ويمثل سارقُ العربة النّظم الليبرالية، جديدها وقديمها، تلك التي تسرق منّا العربة بأسرها. فيهاجمها سلافوي جيجيك بشدّة في كتابه هذا أو في سائر كتاباته.

غير أنّ الصعوبة الحقيقية التي نواجهها تتمثّل في تحديد طبيعة الحرّاس الذين يفتشون هذا المظنون فيه أولا وفي توقّع هويّة هذا الحارس الفطن الذي سيكشف اللغز ويجعل الجميع يدرك أنّ العربات نفسها ما يسرق. وبقراءة الكتاب الذي يهاجم كل أنساق التفكير القديمة ويجادل الفلاسفة حرّاس القيم ويقدّم التصورات البديلة سنتيقّن أنّ سلافوي نفسه هو الحارس الفطن الذي سيكشف لنا لغز الليبرالية. وليس علينا إلا أن نتابع القراءة لنفهم كلّ ما يتعلّق بالأنساق التي تحكم عالمنا لنعرف ما العربة ومن هم سارقوها.

ـ 3 ـ

يجد سلافوي في مفهوم العنف موطنا لعديد المفارقات. وذلك لأنه مركّب من وجه وقفا وسطح وعمق. وباصطلاح الباحث، فهو مركّب من عنف ذاتي مباشر وآخر موضوعي. ولكنّنا لا نرصد منه إلاّ الوجه والسطحي والذّاتي، ذلك العنف المرئي مباشرة الذي يُقترف من قبل شخص يمكن التعرف عليه بوضوح ويدخل في حيّزه الإجرام والإرهاب والاضطراب الأهلي والصراع الدولي. وكثيرا ما يمثّل مشغلا للموقف الليبرالي اليوم، ما تعلّق منه بالعنف المادي المباشر كالقتل الجماعي والإرهاب أو ما تعلّق بالعنف العقائدي الأيديولوجي والعنصرية والتحريض والتمييز الجندري.

يلحّ الضمير الغربي إلحاحا زائفا ومصطنعا على التعاطف مع ضحايا هذا العنف. ولكنّ تكون المشاركة في إدانته أحيانا محاولة بائسة لصرف الأنظار عن بؤرة الشر الحقيقية. فالأمر لا يتجاوز كونه نوعا من الشعور المنافق بالفضيحة الأخلاقية. أما العميق منه، أو العنف الموضوعي وبؤرة الشر الحقيقية، فيتسامح معه ولعلّه كثيرا ما جعل منه موضوع إشادة.

يفرع سلافوي هذا العنف الثّاني إلى فرعين. فمنه العنف المنهجي ويتمثّل في”جملة العواقب الكارثية الناجمة عن مضيّ أنظمتنا الاقتصادية بسلاسة ويسر”. ولكن أشكال العنف المفعّل بعناصر اجتماعية، أفرادا أشرارا، وأجهزة قمعية مدربة، وحشودا أعماها التعصب، تُطمس بصيغ كثيرة. ومنه العنف الرّمزي الذي يتجسّد في اللغة والأشكال في الكون من حولنا عامّة.

ـ 4 ـ

من قصص الكتاب الحكيمة ما يتعلّق بالمواجهة بين ضابط ألماني والرسّام الإسباني بيكاسو. فقد ذُهل هذا الضابط من فوضى لوحة غارينكا لمّا زار مرسمه الباريسي أيام الحرب العالمية الثانية. وسأله: “هل أنت من فعل هذا؟” فردّ بيكاسو بهدوء “لا: أنتم فعلتم هذا”. وينتهي من هذه الحكاية إلى أنه يتعيّن علينا أن نجيب مثل الرسام الإسباني: “لا، أنتم من فعل هذا، هذه الحقيقة المترتبة عن سياستكم أنتم”، وهذا ما يفعله الباحث على نحو عميق في أثره الذي بين أيدينا. لذلك يتساءل: هل نحن بحاجة إلى مزيد من البراهين على أن معنى التعاطف الإنساني في حالات الطوارئ مفبرك، ومبالغ فيه بالفعل، جراء اعتبارات سياسية واضحة؟ وما هي هذه الاعتبارات؟

للإجابة، يتعين علينا العودة إلى الوراء كي نلقي نظرة من موقع مختلف، فحين لامت وسائل الإعلام الأميركية الجمهور في بلدان أجنبية العزوف عن التعبير بما يكفي من التعاطف مع ضحايا هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، كان المرء يتعرض لإغراء الرد عليها بكلمات رويسييير التي وجهها إلى أولئك الذين كانوا يتذمرون في شأن الضحايا الأبرياء لإرهاب الثورة: “كفوا عن نفض رداء الطاغية الدامي في وجهي، وإلا سأقتنع أنكم تريدون تكبيل روما بالقيود” .] وكما فعل بيكاسو سيعرّض الفيلسوف بنفاق أولئك الذين، مع محاربتهم العنف الذاتي، يقترفون عنفا منهجبًا منظما يولد ظواهر يمقتونها هم أنفسهم.

ـ 5 ـ

من نماذج ممارسي العنف المنهجي الذين يحتفى بهم باعتبارهم رموزا للخير ويرفع سلافوي جيجيك صوته عاليا ليقول لهم أنتم من فعلتم هذا” بالعالم، الشيوعيون الليبراليون الجدد. وهم بيل غيتس وجورج شوروش (G) Soros)، كبار المديرين التنفيذيين في غوغل، وآي بي إم (IBM)، وإنتل، وإي بي (eBay)، إضافة إلى فلاسفة بلاطهم. فكثيرا ما يحتفى بهذه الرأسمالية الرقمية وتلقى الإطراء بوصفها تتضمن، من حيث الجوهر، عناصر النظام الشيوعي التي باتت غير قابلة للتمييز عن أيديولوجية الجيل الجديد من الراديكاليين اليساريين المعادين للعولمة.
ولهذا التركيب الهجين (شيوعيون ـ ليبراليون) لغته الخاصة التي تمتدح الذكاء والشطارة والدينامية المتحركة التي هي أقرب إلى الترحال البدوي وتجعل منه بديلا لكل ما هو جهاز بيروقراطي ممركز. وتحتفي بالمرونة فتثمّن الحوار والتعاون في فضاء الثقافة والمعرفة والتفاعل العفوي والتكوين الذاتي على حساب التسلط التراتبي والهرمية الجامدة والروتين والإنتاج الصناعي العتيق في المؤسسات الاقتصادية التقليدية. فقد بات التعاون مع الموظفين ومشاركتهم، والحوار مع الزبائن، واحترام البيئة، وشفافية الصفقات هذه الأيام، مفاتيح النجاح، بحيث يكون الشاب المتحذلق متفوقا على المدير الأكبر سنا، صاحب البدلة الداكنة. ولكننا نكتشف بعد هذا السيل من الإطراء أنّ هؤلاء الشيوعيين الليبراليين، ليسوا في الحقيقة إلا تنفيذيين كبارا دائبين على استعادة روح المنافسة، ودجالين ومهرجين معادين للثقافة نجحوا في وضع الأيدي على شركات كبرى. أما عقيدتهم فليست إلاّ نسخة جديدة ليد السوق الخفية لدى آدم سميث، ألبست ثوب ما بعد الحداثة،.

ـ 6 ـ

يضبط الفيلسوف سلافوي جيجيك، ما يعدّه من الوصايا العشر للشيوعي الليبرالي، منها: “تخلّ عن كل شيء من دون مقابل قنوات ومواقع حقوق تأليف واكتف بفرض سعر على الخدمات الإضافية، فهي ستجعلك أكثر غنى” أو ” غيّر العالم وإحداث تغيير في المجتمع يجعل الأمور أفضل.” و “كن مبتكرا: ركز على التصميم، وعلى التكنولوجيات والعلوم الجديدة” و”كن مؤيدا لتقديس الشفافية، ولتدفق المعلومات، ولضرورة تعاون البشرية كلها وتفاعلها”.

والمفارقة هذا أنّ مدنية ما بعد الحداثة تلتقي مع البداوة في الترحال وعدم الاستقرار. فيتعلّق الأمر بالمكان الذي يتحوّل من الجمود والثبات إلى التحوّل في عالم افتراضي متغيّر بقدر ما يتعلّق بالزّمن. وتتبنى هذه الشيوعية الليبرالية القاعدة التي تأمرنا ألاّ نسعى إلى وظيفة ذات الدوام المحدد من التاسعة إلى الخامسة! وأن نرتبط بشبكة الاتصالات بدل المكاتب وأن نتحلّى بالدينامية، والمرونة وأن ننخرط في التعليم المستمر.

ومن وجوه براغماتية هؤلاء الشيوعيين الليبراليين عملهم ضد المقاربات العقائدية الجامدة التي تتحدّث عن حقوق العمّال وعن العدالة الاجتماعية وعدم انخراطهم في معاداة الإمبريالية. وبالمقابل فهم يعبّرون عن أنفسهم من خلال التعاطف مع الأزمات الإنسانية شأن مجاعة إفريقيا أو مشاكل النساء المسلمات.. و”على الرغم من كل شيء، يظل الشيوعيون الليبراليون مواطنين حقيقيين في العالم. إنهم أخيار يتملكهم القلق. إنهم قلقون في شأن الأصوليين الشعبويين وحيال الشركات الرأسمالية الجشعة غير المسؤولة… لذا فإن هدفهم ليس كسب المال، بل تغيير العالم وإن أدى الأمر، جانبيا، إلى مضاعفة أرباحهم… من الآن أصبح بيل غيتس المحسن الأكبر في تاريخ البشرية، معبرا عن حبه للجيران عن طريق التبرع بمئات ملايين الدولارات للتعليم، ولمعارك مكافحة الجوع والملاريا، يبقى اللغز متمثلا، بالطبع، في أنه كي تتمكن من العطاء، لا بد من أن يأخذ أولا”.

ـ 7 ـ

تتعدّد المواضيع التي فكّكها سلافوي جيجيك، ليسلط من خلالها الضوء على تناقضات العنف الذاتي المباشر والعنف الرمزي أو المنهجي المتخفّي. منها خاصّة التظاهرات العنيفة احتجاجا على رسوم النبي محمد الكاريكاتورية في إحدى الصحف الدانماركية، فيكشف أنّ وراء قيم حرية التعبير، وهو المفهوم السائد الذي يشكل أساسًا لأيديولوجيا اليوم، كمًّا هائلا من العنف الرّمزي ومن محدودية التسامح. وينتهي إلى أنّ الضمير الغربي الذي يبدي ألوانا مختلفة من الحساسية والضيق حيال العنف يعقاب مرتكبي الذّاتي منه. ولكنّ إدانته على أنه “شر”، تظل عملية أيديولوجية بامتياز، فتشكل تشويشا وإرباكا يساهمان في حجب الأشكال الأساسية للعنف الاجتماعي.

ولأنه ينطلق دائما من تحليله النّظري للمتخيّل السينمائي حتّى يبرهن على وجاهة مقولاته ويبرز لنا العنف الرّمزي الذي يستنفر في آليات كثيرة ترمي إلى شل حساسيتنا تجاه أشنع أشكال العنف وأفظعها، يعود بنا إلى فيلم الهارب ( (The Fugitiveللمخرج اندرو ديفيس. ففي نهايته يتواجه الطبيب البريء المتهم (هاريسون فورد) مع زميله (جيرون كرابه) في حوار طبي. ويتهم الأول الثاني بتزوير بيانات طبية نيابة عن شركة صيدلانية كبرى. وبدل تركيز الاهتمام على بيغ فارما (الشركة الرأسمالية الكبرى) بوصفها الجهة المتهمة حقا، يقاطع كرابه فورد ويدعوه إلى الخارج ثم يشتبكان معه في شجار بالغ العنف. فيوسع كل منهما الآخر ضربا ويدمي وجهه.

ـ 8 ـ

يجعل سلافوي جيجك الفيلسوف والناقد الثقافي من النظرية السياسية، ومن التحليل النفسي والسينما النظرية مواضيعه الأثيرة ويصل بينها ليقارب قضايا الرّاهن كالرأسمالية والأصولية والعنصرية وحقوق الإنسان والتعددية الثقافية وقضايا البيئة والعولمة والحروب. والمفارقة أنه وصف نفسه، وهو الذي ترشّح لأول انتخابات حرة في عام 1990 لرئاسة جمهورية سلوفينيا عن الحزب الديمقراطي الليبرالي، بكونه يساريا متطرفا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى