مقالات

خديعة الحشود

كتب رياض الفرطوسي

في كل زمن تخرج الجماهير إلى الساحات، لا بحثاً عن الحقيقة، بل انجرافاً وراء الأصوات العالية التي تتقن صناعة الوهم. الجماهير، التي يُفترض أن تكون مصدر الشرعية، تتحول بفعل التزييف إلى أداة بيد من يعرف كيف يستغل عواطفها. وبدل أن تكون القوة التي تُصلح المسار، تصبح الجدار الذي يحمي الفساد ويبرر بقاءه.

الوجوه السياسية المتصارعة ليست سوى وجوه متعددة لعملة واحدة؛ كل فريق يرفع شعاراً مختلفاً، لكنهم جميعاً يقتاتون من وهم الجماهير نفسها. فمنذ عقود تتكرر الوعود وتتجدد الخطابات، تتلون الشعارات وتتنوع المصطلحات، بينما الواقع يزداد تآكلاً، والبنية الاجتماعية والثقافية تزداد هشاشة. التغيير الذي يُبشرون به لا يتجاوز الكلمات، لأن المنظومات التي تنتج هذه الخطابات لم تمسّها يد الإصلاح، بل تفسخت من الداخل حتى صارت عاجزة عن ولادة مشروع حقيقي.

ولعل قصة الإمبراطور العاري تختصر المشهد بأكمله.( فقد كان الإمبراطور مهووساً بالمظاهر، لا يهتم بشيء بقدر اهتمامه بملابسه الفاخرة. جاءه محتالان بارعان وأخبراه أنهما سيخيطان له ثوبًا عجيبًا لا يراه إلا الحكماء والأذكياء، بينما يظل خفيًا عن الأغبياء. انبهر الإمبراطور بالفكرة وصدّق الوهم، لأن غروره جعله يخشى أن يظهر بمظهر الجاهل أو البسيط).

وقف الخياطان أمامه يحركان أيديهما في الهواء، وكأنهما يخيطان ثوباً لا وجود له. والإمبراطور، مع حاشيته المنافقة، راح يمدح جمال الثوب الوهمي، وكل واحد منهم يخشى أن يُتّهم بالغباء لو قال الحقيقة. وهكذا ارتدى الإمبراطور “العدم”، وخرج إلى الشارع عارياً تماماً، وهو يتخيل أنه يرتدي ثوباً مذهلًا.

الجمهور المصفّق لم يكن مختلفاً عن الحاشية؛ صفقوا لأنهم اعتقدوا أن الصمت أمان، وأن قول الحقيقة مخاطرة. وحده طفل صغير، بريء من الخوف والتملق، صرخ بصوت عالٍ: “الإمبراطور لا يرتدي شيئاً!”، عندها فقط انكشف الوهم، وظهر عُري الحقيقة أمام الجميع.

هذه القصة تلخص ببساطة كيف يمكن أن يصنع النفاق والرياء واقعاً زائفاً، وكيف أن الخوف من الحقيقة يجعل الكبار يتواطؤون مع الوهم، بينما يملك الطفل شجاعة البوح بما يراه بوضوح.

إن أخطر ما يواجه مجتمعنا لا يكمن في وجود شخصيات سياسية فاسدة فحسب، فهذا أمر مألوف في كل زمان ومكان، بل في انخداع الناس بها واصطفافهم خلفها، وكأنهم يهربون من مواجهة ذواتهم ومسؤولياتهم. فالجماهير التي كان يُفترض أن تكون قوة للتغيير، تحولت إلى حشود متناقضة لا تلتقي على مشروع بناء، بل على لحظة هتاف عابرة وانفعال جماعي سريع التبخر. وفي غياب الوعي النقدي، تتحول هذه الطاقة إلى وقود يطيل عمر الأزمة بدل أن يضع حداً لها.

التاريخ يعلمنا أن الأمم لا تتغير بالخطب ولا بالمهرجانات ولا بالأقنعة السياسية، بل حين تُعاد صياغة منظومتها الفكرية والثقافية والاجتماعية. فالإصلاح يبدأ من الوعي، والوعي لا يُصنع من شعارات جوفاء، بل من مراجعة جذرية لمفاهيمنا، ومن القدرة على كسر دائرة الوهم التي تحيط بنا. عندها فقط يصبح الشعب هو الطفل الذي يجرؤ على قول الحقيقة: “الإمبراطور عارٍ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى