
في لحظات التحولات الكبرى لا تأتي الإشارات عبثاً. قرار الرئيس الأميركي ترامب بإعادة تسمية وزارة الدفاع إلى (وزارة الحرب) ليس مجرد لعبة لغوية أو استدعاء لاسمٍ تاريخي، بل هو تعبير عن إدراك استراتيجي بأن العالم يقف على أعتاب طور جديد، حيث لم تعد لغة الدفاع كافية لضمان بقاء الهيمنة الأميركية. في هذا المشهد الملبّد بالتوترات، من أوكرانيا إلى غزة، ومن سوريا ولبنان إلى البحر الأصفر. تبرز فنزويلا بوصفها الحلقة الأضعف والأخطر في آن واحد، ساحة جيوسياسية تختزن أكبر احتياطي نفطي في العالم، وتتموضع على خطوط تماس بين نفوذ روسي عسكري ورهان صيني اقتصادي.
هنا يتجاوز الصراع حدود كاراكاس إلى ما هو أبعد، حيث إعادة رسم معادلة الطاقة العالمية، وتحديد ما إذا كان النفط الفنزويلي سيبقى تحت سقف الدولار والنفوذ الأميركي، أم يتحول إلى رافعة جديدة لمشروع صيني روسي يطمح إلى كسر احتكار الغرب لموازين القوة. بهذا المعنى، تبدو فنزويلا أكثر من مجرد ملف إقليمي، إنها مرآة لصراع استراتيجي أعمق على شكل النظام الدولي المقبل.
فنزويلا: عقدة النفط والصراع الدولي
لم تعد أميركا اللاتينية مجرد (حديقة خلفية) رمزية للولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة تحولت أجزاء منها إلى منصات نفوذ تنافسية لمعسكر شرقي صاعد. فنزويلا التي تملك أكبر احتياطي نفطي مثبت بحسب أوبك، وبشبكة علاقات مالية وعسكرية مع بكين وموسكو، لم تعد قضية داخلية بحتة بل مسألة استراتيجية دولية تعيد رسم خرائط الطاقة والنفوذ.
نلاحظ أن الكنز النفطي الفنزويلي اليوم معطل بفعل العقوبات الأميركية، والفساد البنيوي، وتدهور البنية التحتية للاستخراج والتكرير، لكنه لم يفقد قيمته الإستراتيجية. تدخل بكين، عبر قروض واستثمارات تقدر بعشرات مليارات الدولارات أي (حوالي 60 ملياراً بحسب الأرقام المتداولة)، لم يكن مجرد رهان تجاري على عائد مالي فحسب، بل تحصيل ضمانات إمداد طاقوي طويل الأمد وشروط استراتيجية مفضلة للنفط. وفي المقابل، تقدم روسيا دعماً سياسياً وعسكرياً وتقنياً يجعل من كاراكاس نقطة التقاء بين نفوذ اقتصادي صيني وقدرات عسكرية روسية.
هذا التكامل الشرقي يحول النفط الفنزويلي من سلعة اقتصادية إلى رافعة جيوستراتيجية. إمدادات يمكن أن تخضع لشروط سياسية تقوض قدرة واشنطن على ضبط إيقاع أسواق الطاقة عبر آليات الدولار والتحالفات التقليدية. لذلك، أي تحرك أميركي ضد النظام في كراكاس لا يقرأ فقط كضغط لإحداث تغيير سياسي، بل كحربٍ على منطق الاستحواذ الطاقي الذي قد يعيد تشكيل موازين القوة الاقتصادية العالمية.
ومن هنا نرى أن فنزويلا تقف عند مفترق استراتيجي، إما أن تبقى مخزوناً معطلاً تحت قيود النظام المالي الغربي، وإما أن تتحول إلى محور طاقي بديل لمشاريع موازية للنفط خارج الهيمنة التقليدية، وخيار كل من هذه المسارات يحمل تبعات مباشرة على ترتيب القوى والاقتصاد العالمي.
واشنطن وكراكاس.. صراع النفوذ والطاقة
التحركات العسكرية الأميركية في البحر الكاريبي, من إرسال المدمرات والغواصات النووية، ونشر مقاتلات F-35 في اقليم بورتوريكو، لم تعد مجرد مناورة دفاعية ضد المخدرات كما تزعم، بل تتجاوز إطار (الأمن الداخلي) إلى مشروع استراتيجي أوسع. وهو الضغط على (نظام نيكولاس مادورو) لتغيير موازين النفوذ في قلب أميركا اللاتينية. فالمكسيك، الدولة الحدودية الأكثر ارتباطاً بتدفقات المخدرات، لم تشهد مثل هذا الحشد، ما يؤكد أن القضية تتعلق بالسيطرة على مركز ثقل جيوستراتيجي، لا مكافحة الكارتيلات فقط.
في هذه المعادلة، النفط الفنزويلي يمثل محور الصراع بين التحالف الروسي الصيني وامريكا . الصين، تصل الى فنزويلا عبر صفقات النفط مقابل القروض، والتي تضمن لنفسها إمدادات طاقوية طويلة الأمد بأسعار تفضيلية، فيما تقدم روسيا الدعم التقني والعسكري وتشارك في إدارة الحقول النفطية من خلال شركاتها مع كراكاس. هذا التكامل الشرقي يحوّل فنزويلا إلى منصة استراتيجية قادرة على تهديد الهيمنة الأميركية على أسواق الطاقة، ويمنح بكين وموسكو نفوذاً بعيداً عن رقابة الدولار والأسواق الغربية.
من هنا، تبدو الولايات المتحدة في معركة مفتوحة على عدة جبهات. السيطرة على الطاقة أصبحت أولوية وطنية، ليس فقط لمواجهة النفوذ الروسي الصيني، بل لضمان استمرار أوروبا في الاعتماد على الطاقة الأميركية ومنع تحويل النفط الفنزويلي إلى رافعة استراتيجية للشرق. في هذا السياق، لم يعد النفط سلعة اقتصادية عابرة، بل أداة جيوسياسية محورية، وأحد أعمدة الصراع الدولي القادم.
كاراكاس.. شرارة محتملة لصراع عالمي
الخطر في فنزويلا لا يقتصر على مواجهة مباشرة بين واشنطن وكراكاس، بل يمتد إلى احتمال تدخل موسكو وبكين بشكل فعّال. روسيا قد تزود فنزويلا بأدوات عسكرية متقدمة، بينما تقدم الصين دعماً مالياً واقتصادياً لحماية نظام مادورو، ما يحول البلاد إلى ساحة صراع بالوكالة، حيث يُختبر النفوذ الأميركي في (عقر داره) ويُختبر الصبر الشرقي على الخطوط الحمراء التي تحددها واشنطن. الأرجح أن تبقى المواجهة ضمن نطاق (الحروب بالوكالة)، فالتصادم المباشر بين القوى النووية الكبرى لا يزال الخيار الأخير الذي لا يرغب أي طرف في الوصول إليه. ومع ذلك، حتى هذه الحرب بالوكالة قد تولّد سلسلة أزمات متشابكة؛ من تعطيل إمدادات النفط إلى زعزعة الاستقرار في الكاريبي، وفتح جبهة جديدة تستنزف جميع الأطراف. كاراكاس قد تتحول إلى (شرارة صغيرة) تشعل تفاعلات تتجاوز التوقعات، وتؤدي في نهاية المطاف إلى مواجهة أوسع بكثير.
إذا تحوّل التوتر إلى مواجهة شبه عسكرية، فإن سوق النفط العالمي سيكون أول المتأثرين، حيث سترتفع الأسعار عالمياً نتيجة تهديد الإمدادات الفنزويلية، خصوصاً في ظل اضطرابات الإمدادات من روسيا والشرق الأوسط. كما ستزداد اعتماد أوروبا على الطاقة الأميركية، مما يمنح واشنطن ورقة ضغط استراتيجية جديدة، في حين يسعى التعاون الصيني الروسي إلى إنشاء سوق بديلة للطاقة خارج سيطرة الدولار وإضعاف النفوذ الغربي التقليدي. في هذا السياق، لم تعد فنزويلا مجرد حديقة خلفية أميركية، بل منصة اقتصادية وجيوسياسية يمكن أن تعيد رسم خريطة الطاقة العالمية. الحرب المحتملة لن تقتصر على الإطاحة بمادورو، بل تهدف إلى قطع شريان نفطي عن الصين وفرض معادلة جديدة تتحكم بها واشنطن لضمان استمرار هيمنتها على الاقتصاد الدولي وأمن الطاقة.
الصراع على فنزويلا ليس قضية محلية ولا حتى إقليمية! إنه صراع على من يتحكم بالقرن الحادي والعشرين اقتصادياً. إذا كانت (الحرب الباردة الأولى) قد قامت على السلاح النووي، فإن (الحرب الباردة الثانية) تبدو مرشحة لأن تشتعل حول النفط والغاز، وفنزويلا قد تكون وقودها الأول.