عذراً يا لغات العالم قاطبة، فحكم التاريخ والواقع قد صدر بتجريم الأبجديات جراء قصورها وتقصيرها عن ملامسة طهر الحقيقة، وما بين العجز المقتحم أغوار الوجع بلا نهاية، وبين عدم الجدوى تُشَلُّ حركة الأنامل، فَتُصْلَبُ على خشبة الأنين كما صُلِبَ يسوع المسيح، والقاتل نفسه يتكرر ويجدّد نزعاته الشريرة ومظهره المخادع محافظاً على جينات الخبث والكذب والغدر والقتل كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.. شعورٌ قاتلٌ يجتاح كيان الكاتب عندما يعيش حقيقة العجز عن تسطير كنه القهر والعهر بآن معاً…قهر الطفولة والأنوثة والحق والقانون، والمنطق والأعراف، وعهر الصامتين الخانعين المتذبذبين بين حدَّي العجز وعدم الجدوى… عذراً مسبقاً عن قبول أية سردية إن كانت تصادر الإرادة لتدفن ما أمكن من حقائق، وتحلّق بجناحي المسوغات الممجوجة أو المبررات الدافعة للتقيؤ، وفي الوقت نفسه لا تحذف من قواميس احتمالها العودة للحس ما تقيأته بالأمس أو اليوم أو الغد…
عذراً يا سماء الحق فالصدور تغصُّ بما لا تطيق احتماله… عذراً إن كانت الصرخة فيها بعض شططٍ أو خروج عن المألوف… عذراً عن أية كلمات تأتي لاحقاً في هذا المقال أو غيره، وتكون متناقضة مع معايير عصرنة موبوءة، وحضارة تعشش في ثناياها ظلامية الجاهلية الأولى… عذراً فالعجز يصيب اليراع بمسٍ من جنون، أو رغبة جامحة للتمرد وإطلاق العنان للأحاسيس والمشاعر والقناعات لتتبلور فطرياً وعفوياً بعيداً عن كل نظريات ضبط الإيقاع التي عادة تنتهي لمصلحة الأقوى، وموازين القوة التقليدية ترجح فيها الكفة الأخرى…
عذراً فعجز الأبجدية لا يبرر هول الإجرام المنفلت من كل عقال، وإذا أضفنا إلى عجزِ اللغات عجزَ الكتَّاب عن تغيير معالم اللوحة المرسومة بأشلاء الأطفال والنساء، فالغصة تصبح خانقة وفوق طاقة التحمل والجلد، لأن السياط التي يُجْلَدُ بها العالم بكليته مصنوعة من فروات الرؤوس وبقايا الجلد الإنساني المتفحم في شوارع غزة وعلى امتداد جغرافيتها الحبلى بالعزة والكرامة رغم فظاعة الجرائم المرتكبة، وما يدمي العين ويصيب القلب بالجلطة الحتمية تلك الاستعراضات المسرحية التي يطل عبرها الأقزام ومن غاصوا حتى ما بعد الأذنين في أوحال الذلة والتبعية، فيسدون النصائح تارة، ويسوقون أنفسهم رسل سلام واستقرار وعشاق هدوء وطمأنينة وأمن، وعلى أولئك أن يدركوا أن إتقان تمثيل الدور المناط بكل منهم لا يمنح الخصيان إلا فحولة متوهمة يُقْنِعُ بها المسترجلون “الأنا” المرضية المتورمة حتى ما بعد الحدود السرطانية بتصريحات ومواقف لا تغني ولا تسمن من جوع، ومن حقي كإنسان عربي مشرقي شامي سوري أن أتساءل باستفهام إنكاري: هل يعقل أن العالم لا حول له ولا طول، وكيف لإرادة الشر والجريمة وارتكاب الموبقات أن تكسب هذه الجولة أو تلك، كما يتوهم بعض عميان البصيرة؟ …وإذا كان ذلك محكوماً بِغَلَبَةِ الباطل في إحدى جولاته فماذا عن عدالة سماء الحق والحقيقة؟ …
نعم … اليقينُ مطلقٌ بعدالة السماء، لكنه أيضاً مطلقٌ بجور أهل الأرض، واستشراء الظلم والتوحش، وتشويه قيم الإنسانية السمحة التي يحرص الكثيرون على التغني بها، وبفارسها الإنسان… الإنسان الذي خلقة البارئ الذارئ المصور على مثال صورته، وكرمه بخلقه في أحسن تقويم، وإذا ببعض من أبناء الجنس البشري يتطاولون حتى على الخالق جلَّ في علاه، ويستلذون وهم يعيشون غبطة النشوة بجلد القيم والأعراف وكل ما له علاقة بالأخلاق التي تسمو بها الأمم… يعيشون ذروة المتعة وهم ينحرون إنسانية الإنسان ويسفكون دم الطفولة وبراءتها في مذبح نزعاتهم الشيطانية التي يقف إزاءها إبليس فاغراً فاه من هول ما يحدث على مسمع من العالم العاجز ومكتوف الأيدي، وأمام بصر البشرية جمعاء وهي تمني النفس بإصدار بعض بيانات الشجب والاستنكار للجرائم المروعة التي استمرأ جند إبليس مراكمتها في المسلخ المخصص لأكل بعض اللحوم البشرية حية قبل النحر، فإلى متى يبقى فرسان الإنسانية مشغولين بعد جراحاتهم ونصال الغدر والحقد التي يفلُّ الأحدثُ منها ما سبقه واستقر في اللحم والعظم؟ إلى متى تبقى الصرخة مخنوقة، والحقيقة العارية ملزمة على التواري من أعين أشباه البشر الذين يخفون تحت جلودهم الآدمية وحوشاً مسعورة تهدد إنسانية الإنسان وحقه في الحياة؟ …
إلى متى، ولماذا، وكيف، وهل، وبقية أحرف الاستفهام لا يمكن أن تدنو من هول ما يرتكبه حكام تل أبيب المدعومين أمريكياً من جرائم، ويتباهون بها عبر الشاشات مستهزئين بإرادة المجتمع الدولي، ومطمئنين إلى أن فيتو بلاد العم سام سيبقى مكرساً ليضمن لهم إمكانية الاستمرار في حرب الإبادة الممنهجة والتهجير القسري لشعب الجبارين في فلسطين الأسيرة، وحقيقةً لا أستطيع أن أفهم ولا أتفهم كيف لمجرم مسعور يشغل مرتبة “وزير الأمن القومي” في الكيان الغاصب أن يتباهى بالحرص على استصدار قرار يستبدل فتات الخبز اليابس المخصص لآلاف المعتقلين في سجون الاحتلال بطلقة في الرأس؟ وكيف لعالم يدعي الحرص على الديمقراطية أن يسمع خبراً تبثه وسائل الإعلام الإسرائيلية عن اكتظاظ السجون بالمعتقلين، والشكوى من هكذا وضع، أم كيف للعالم أن يصمت عن قرار يتلوه قرار بإقامة مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، والعمل ليلاً ونهاراً على استمرار نحر إنسانية الإنسان كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟ …