
حديث الدكتور وليد السهلاني من على شاشة قناة العراقية يتجاوز حدود الرواية، ليدخل مباشرة في قلب الجرح العراقي الذي لم يلتئم. فهو لا يستحضر الماضي بوصفه زمناً انقضى، بل يبعثه حيّاً، دامياً، نابضاً بآهات آلاف الرجال والنساء الذين ابتلعتهم دهاليز الرعب في تسعينيات النظام البعثي. ما ينقله السهلاني ليس وصفاً لمبانٍ إسمنتية باردة، بل كشفٌ عن فضاءات أُعدم فيها المعنى قبل الإنسان، حيث لم تكن مديريات الأمن مؤسساتٍ للحماية، بل مسالخ تُذبح فيها الكرامة على مرأى الصمت.
هناك، كانت الأسماء تُمحى قبل الأجساد، وكانت الأرواح تُكسر ببطء خلف جدران تحفظ الصراخ أكثر مما تحفظ الأسرار. لم يكن الداخلون يُسألون عمّا فعلوا، بل عمّا تبقّى فيهم من قدرة على الاحتمال. وفي تلك الأمكنة، لم يُكتب التاريخ بالحبر، بل بالدم والدموع والانتظار الطويل لأمهات لم يعد أبناؤهن. حديث السهلاني هو صرخة متأخرة للعدل، ومرآة موجعة لزمنٍ صار فيه الخوف قانوناً، والتعذيب لغةً، والإنسان مجرد رقم في ملفٍ أسود.
*هناك تُصادَر الأسماء قبل الأرواح*
في تلك الحقبة، كانت أسماء المعتقلين تُسجل في قوائم الموت قبل دخولهم إلى تلك المباني. الجدران كانت تحفظ صدى صرخات من فقدوا حياتهم أو عطّلت أجسادهم تحت وطأة التعذيب. هذه الإدارات لم تكتفِ بحرمان الإنسان من حريته، بل أخذت تقتلع إنسانيته بكل بربرية ممكنة.
السهلاني الذي عايش جزءاً من تلك التجربة المريرة بنفسه في معتقلات مثل أمن الناصرية يُسلّط الضوء على حالات الموت البطيء داخل تلك الأماكن: السجناء كانوا يُتركون ليموتوا من الجوع أو تحت وطأة التعذيب بلا رحمة، وكانوا كبشر يعاملون كأرقام أو ملفات يُعاد تدويرها بعنف نظامي.
بالنسبة إلى السهلاني والمؤسسة التي يقودها، ليست القضية فقط تسجيل الانتهاكات التاريخية، بل تحويل تلك الذكريات إلى رواية وطنية يجب أن تبقى حيّة. في أكثر من مقابلة، دعا إلى توثيق هذه الشهادات، وإقامة نصب تذكاري في بغداد، ليكون تذكيرًا دائمًا بما حلّ بآلاف العراقيين في حقبة العنف البعثي.
هذه المهمة ليست انتقاماً، بل إنصافاً للضحايا وتأكيداً على قيم العدالة الإنسانية. فـ “الشهداء الأحياء” كما يصف السهلاني السجناء هم من قدموا أغلى ما يملكون من أجل كرامة الإنسان والحريات، ويستحقون أن تكون قصصهم موثّقة، لا محْذوفة أو منسية.
*تجاوز الألم إلى التذكير والتوثيق*
يرى السهلاني أن التاريخ لا يموت إذا رُوي بحذافيره، وأن تجاهل قصص المعاناة يترك فراغاً يقوّي ثقافة العنف ويُضعف المجتمع في مواجهة الانتهاكات المستقبلية. ولذلك، فالتأكيد على توثيق الشهادات، إعادة النظر في الملفات القديمة، ونشرها في الإعلام والمجتمع لا يسعى فقط لإنصاف السجناء، وإنما لبناء عراق أكثر وعياً بحقوق الإنسان.
ما يقوله الدكتور وليد السهلاني ليس تكراراً لأحداث مضت، بل صرخة تنادي بعدم تكرارها. هو يذكرنا بأن المؤسسات الأمنية، التي يفترض أن تحمي المواطن إذا انحرفت عن دورها تصبح أداة تدمير للإنسانية نفسها. شهادات السهلاني والمعتقلين أمامه هي تذكير بأن العدالة الحقيقية تبدأ بتذكر الماضي، للاعتراف بحقوق الضحايا، ولمنع تكرار الفظائع.




