
ليست هذه حرباً تقليدية، ولا نزاعاً حدودياً، ولا حتى اشتباكاً بين دولتين. ما يجري بين إسرائيل وإيران اليوم لا يشبه ما ألفناه من معارك الشرق الأوسط، ولا ينتمي إلى حقبة مضت. إنه زمن الحرب التي لا تطرق الأبواب، ولا تُرى في المرايا، لكنها تشعل ما خلف الجدران، وتفتح فجوات في الداخل، حيث تنهار الأنظمة قبل أن تسقط.
نحن في اليوم السادس من المواجهة، والضربات التي تتساقط ليست تبحث عن السلاح النووي، كما زُعم، بل عن القلب النابض للمجتمع الإيراني: مخازن الوقود، محطات الطاقة، الأبراج الإعلامية، البنى التحتية التي تُبقي حياة الناس مستمرة. لم تُقصف المفاعلات، بل استُهدفت مقومات البقاء. هذا ليس صدفة. هذا تصميم.
لقد دخلنا، دون إعلان، عصراً جديداً من الحروب. حروب الجيل الخامس لا تحتاج إلى جيوش جرارة، بل إلى أزمة متقنة الإخراج، تليها معاناة، ثم مأساة، فاحتقان شعبي ينفجر في لحظة غليان محسوبة. هنا، السلاح ليس صاروخاً، بل فكرة. والرصاصة ليست معدنية، بل معنوية. الشائعة تُطلق كصاروخ، والانهيار المالي كضربة جوية، والانقسام الاجتماعي كقنبلة موقوتة.
إسرائيل لا تريد رأس النظام، بل تُراهن على قلب الشارع. وأميركا تراقب، تنسّق، وتختبر أدواتها المستقبلية من دون أن تتورط بالكامل. كل هذا يتم تحت عنوان واحد: لا نريد إيران نووية. لكن الحقيقة أعمق: لا يريدون إيران صامدة.
فالمنطقة كلها على طاولة التشريح، والعملية الجراحية جارية بلا تخدير. ما يُسمى بمشروع “الشرق الأوسط الجديد” لم يكن يوماً دعوة للتقريب بين الشرق والغرب كما قيل، بل مشروعاً لإعادة تشكيل المنطقة عبر أدوات حديثة لا تترك أثراً مرئياً. ليس المقصود احتلال الأراضي، بل تفكيك الدول من الداخل وإعادة تركيبها على مقاسات المصالح الكبرى.
وهنا، تنكشف حقيقة مُرّة: ما يُطلق عليه اسم “الحرب”، لم يعد يُخاض بالجيوش وحدها، بل بالأزمات المتتالية التي تُنهك الشعوب وتجعلهم هم أنفسهم وقود التغيير. لا حاجة اليوم لقصف العواصم، بل يكفي أن تنهار شبكة كهرباء في لحظة حر، أو أن تتعطل محطات الوقود في وقت حاجة، أو أن تغيب المعلومة الصادقة في ظلام الأخبار الملفقة. المعاناة تصنع النقمة، والنقمة تفتح بوابة الانهيار.
والمفارقة أن هذه الحروب باتت متاحة للجميع. دول، جماعات، جيوش ظل، وأفراد قادرون على إشعال شرارة الخراب بكبسة زر. لذلك بدأت الدول تعد عدتها لمواجهة حرب لا جبهة لها، عبر الذكاء الاصطناعي، والأنظمة السيبرانية، والجيوش الرقمية التي لا تنام. لكن حتى هذه التقنيات قد تعجز حين تتحول الحرب إلى نمط حياة، والمجتمع إلى خندق مفتوح.
إيران اليوم ليست في حرب ضد إسرائيل فحسب، بل في مواجهة مع فكرة جديدة للحرب، تُستهدف فيها البنى النفسية والمجتمعية والاقتصادية بالتوازي مع أي استهداف عسكري. الخطر لم يعد في الطائرات، بل في تضخم الأسعار، في انقطاع الخدمات، في يأس الناس. فهل تكون هذه الحرب بداية النهاية لنظام طهران، أم بداية تأقلم جديد مع زمن الحصار الذكي؟
الأرجح أننا أمام اختبار مفتوح، لا يخص إيران وحدها. فالمنطقة بأسرها معنية. لأن غبار الجيل الخامس لا يعرف الحدود، وما يُصيب طهران اليوم قد يخترق بغداد غداً، ويُربك عمّان، ويهزّ بيروت، ويدفع الخليج إلى خيارات صعبة. ما يجري ليس فصلًا من رواية عابرة، بل افتتاحية زمن جديد، يُكتب فيه مستقبل المنطقة بلغة مغايرة تماماً.
نحن أمام حرب لا هوادة فيها، لكنها بلا أعلام. لا تعترف بالنصر ولا بالهزيمة. فيها تُقاس الخسائر بعدد العقول المخدوعة، لا بعدد القتلى. حربٌ لا تحترم الحياد، ولا توفر من لم يقاتل. ولهذا فإن النجاة منها لا تكون بالصمت، بل بالفهم. بالفطنة. بالاستعداد الدائم لما هو غير متوقع.
الوعي هو السلاح الوحيد. والبصيرة هي خط الدفاع الأول. لأن الحرب حين لا تشبه الحروب، يصبح من السهل أن تمرّ بجوارك دون أن تراها، وتدمر كل ما فيك دون أن تُسمع طلقة واحدة.