
في مشهدٍ يكاد يكون مجازياً لسقوط جدران روما القديمة، تتكشّف أمام أعين العالم مشاجرة علنية بين أقوى رجل في الدولة وأغناهم مالًا، بين من يُفترض أنه حارس الدستور، ومن يُنظر إليه ككاهن التكنولوجيا الجديدة. دونالد ترامب، وقد عاد إلى البيت الأبيض مثقلًا بالأحكام والانتقام، يهدد إيلون ماسك علناً بقطع العقود الفيدرالية، لا لشيء سوى “قلّة الولاء”. لم يعد الأمر بحاجة إلى تمويه قانوني أو ذرائع إدارية؛ فالرئيس يتحدث باسم الدولة كما لو أنها أملاكه، ويوزع العقاب كما لو كان سلطاناً مهزوزاً يضرب رقاب خصومه في الساحات.
لكن هذه الحادثة، بكل ما تحمله من شبهة فساد وسوء استخدام سلطة، ليست سوى قشرة في مشهد أعمق: الإمبراطورية الأمريكية، كما تنبأ مفكروها ومثقفوها، بدأت تأكل نفسها من الداخل. فالدولة التي رفعت راية “القانون فوق الجميع”، باتت تحكمها نزوات فرد وتجار نفوذ. والمؤسسات التي كانت تتباهى باستقلالها، صارت ألعوبة بيد رئيسٍ يهدد ويتوعد علنًا، دون أن يرف له جفن.
تتصاعد الأزمة على خلفية المشاجرة العلنية بين ترامب وماسك، التي كشف فيها الرئيس بوضوح عن رؤيته السلطوية للحكم، حيث اعتبر الحكومة أداة شخصية تُستخدم لمنح الامتيازات للأصدقاء ومعاقبة الخصوم. فقد هدد ترامب بقطع العقود الفيدرالية عن ماسك، مظهراً استعداده لاستخدام كل أذرع الدولة كوسائل للانتقام. وما كان في العهود السابقة مجرد شبهات فساد تستوجب تحقيقات قضائية، أصبح اليوم جزءاً من المشهد اليومي للسلطة الأميركية.
هذا الانقسام العلني لم يكن مفاجئاً، بل هو انعكاس لصراع أعمق بين رؤى متضاربة حول مستقبل الدولة: بين نموذج الدولة كمؤسسة قانونية حيادية، وبين نموذجها كأداة في يد رجل واحد يوزع الولاءات والعقوبات بناء على نزواته الشخصية. ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض وهو يحمل في جعبته قائمة أعدائه، لم يتردد في استهداف مؤسسات ومدعين عامين ووكلاء مكتب التحقيقات الفيدرالي ووسائل الإعلام وحتى مسؤولي إدارته السابقين، مستخدماً منصبه لتحقيق انتقام شخصي عميق.
في الوقت ذاته، أصبح ماسك، الذي دعم ترامب بمئات الملايين، مثالاً صارخاً على التداخل بين السلطة الاقتصادية والسياسية، حيث حصل على عقود بمليارات الدولارات من الحكومة، واستغل نفوذه لتعيين حلفائه في مواقع حساسة مثل وكالة ناسا، في حالة تضارب مصالح لم تُعاقب. لكن خلافهما العلني، الذي اتسم بنشر الغسيل السياسي عبر وسائل الإعلام، يعكس أزمة أوسع: أزمة ثقة بين مؤسسات الدولة نفسها وبين الطبقة الحاكمة.
يُظهر مفكرون أميركيون كبار مثل فرانسيس فوكوياما وجارنس جونسن وكريس هيدجر وبول كنيدي أن هذه الأزمة ليست حادثة عابرة، بل هي تعبير عن خلل مؤسسي عميق في النظام الأميركي، من جمود سياسي وفشل اقتصادي وانهيار ثقافي. ويشيرون إلى أن الولايات المتحدة، التي كانت الإمبراطورية الأولى في العالم، باتت تعيش حالة من الانحطاط الداخلي، حيث تآكلت الطبقة الوسطى، وازدادت هوة الاستقطاب السياسي، وانتشر الاستهلاك والترف على حساب القيم والوعي.
إن لحظة سقوط الإمبراطوريات لا تأتي عادةً بضربة مدفع، بل بانزلاق تدريجي في المعنى. وما نراه اليوم ليس مجرد ارتجاج في صورة السلطة، بل تصدّع في بنيتها العميقة. فحين تنقلب الجمهورية على جمهورها، ويتحوّل الرئيس إلى خصم للدستور، والرأسمالي إلى تابعٍ للسلطان، تفقد الدولة جوهرها الأخلاقي وتدخل طور الشيخوخة السياسية.
لقد بُنيت أميركا على فكرة “العقد الاجتماعي”، بين الفرد والسلطة، بين القانون والقوة، بين الدولة والمجتمع. واليوم، تُقطع خيوط هذا العقد، ويُستبدل العقل التأسيسي بالغرور الشخصي، ويُشترى المستقبل بعملة الولاء اللحظي. وهذا ليس شأناً أميركياً صرفاً، بل مؤشراً على عصرٍ جديد تفقد فيه الديمقراطيات الغربية قدرتها على الإقناع، وتتحوّل إلى أنظمة متضخمة تحرس خواءها بالهيبة العسكرية.
لقد عاشت الإمبراطوريات دائماً على وهم الاستثناء. وكلما استبد بها هذا الوهم، اقتربت من نهايتها. من روما إلى العثمانيين، ومن بريطانيا إلى الاتحاد السوفيتي، كان الانهيار يبدأ دائماً من الداخل: من فساد القصر، من جنون العظمة، من وهم الاستحقاق الإلهي للخلود. واليوم، تتكرر الدورة. أميركا، التي كانت تعلّم العالم كيف تُدار الدولة، صارت تعجز عن إدارة رئيسها، وتساوم على الحقيقة من أجل حفنة مقاعد في الكونغرس.
العالم لم يعد يتلقى دروساً من واشنطن. بل يتأمل فيها كما يُتأمل من يقف على حافة السقوط، يصرخ في الهواء، بينما الجاذبية تؤدي واجبها بهدوء.
وما يحدث الآن ليس سوى مقدّمة طويلة لنهاية لا يريد أحد تسميتها: نهاية “الاستثنائية الأميركية” بوصفها معياراً، ونهاية الإمبراطورية بوصفها قدراً. ربما لن تنهار القصور في لحظة، لكن جدران المعنى بدأت تتداعى.