Uncategorized

ابن خلدون ، والعلوم الآلية

الدكتور علي زناد كلش البيضاني

في البدء يجب علينا أن نُعرّف العلم الآلي ليكون مدخلاً مفهوماً للمتلقي فهو ” العلم الذي يستخدم لحصول غاية ما ” بمعنى آخر إنها العلوم التي لا يراد منها ذاتها بل الوصول إلى شيء آخر ، ومن الأمثلة على ذلك :

1ـ علم الجبر : هو علم لا يُبحث في ذاته بل يبحث عن طرق حل المعادلات التي يتوصل بها إلى المجهولات الحسابية.

2ـ علم المنطق :هو العلم الذي يتكفل ببيان الطرق العامة الصحيحة التي يتوصل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة.

وبهذا تتضح ملامح تعريف العلوم الآلية في إنها الطرق المُوصلة لاستكشاف الحقائق وبيان مضامينها الداخلية من الناحية الغائية .

لكن الإشكال الذي يورده ابن خلدون ت808هـ هو كالآتي :

“إعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالها فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فاذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده” المصدر : مقدمة ابن خلدون ص 536 ـ 537 .

نرى إن هذا الإدعاء من ابن خلدون في تسطيح العلوم الآلية لا ينسجم مع الفطرة العقلية للإنسان التي جُبلت على حب المعرفة الغائية للأشياء ، بل إن فقدان المعرفة بالغايات يجعل المسائل المدروسة غير نافعة أو فارغة المحتوى ، أما قوله ” والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني ” فهل إن العلم محصوراً بيد أفراد معنيين ؟ أو إن العلم ومعرفة أسبابه وغاياته تقتصر على أُناس دون غيرهم ؟ وهل يبقى العلم حبيس ومحصور في بفترة زمنية معينة دون أن يكون له تأثير أو فائدة يعطيها السابق للاحق ؟ ثم إن من طرق استثارة دفائن العقول هو إثارتها للأسئلة التي تستلزم أجوبة ، بل إن مفاتيح العقل تكمن في طرح الأسئلة المتناسلة والولودة غير المنتهية حتى يأتي ابن خلدون ويقول ” ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود … صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها ” فإذا أعدمنا الأسئلة قرباناً لمذبح التفريع والتطويل ما هو حال الاكتشافات التي يُشكّل السؤال فيها أساس لا يمكن القفز فوقه وتجاهله ونسبة دوره في حقل الاكتشافات تتجاوز حدود النصف ، فالأئمة عليهم السلام وبينوا غايته ولك في كلام أمير المؤمنين علي (ع) خير دليل إذ قال (ع) ” إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ ” وغير ذلك كثير للذي يتصفح أقوال وعلوم أهل البيت (ع) ، كما إن ترك الغاية يفقد التعريف مضمونه وفائدته فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد الشهيد الثاني زين الدين العاملي ت965هـ في تعريفه لعلم الدراية لم يتركه تعريفاً عائماً بل يذكر معه السبب والغاية في التقسيم الوارد في التعريف إذ نقل عنه في التعريف لعلم الدراية قوله ” علم يبحث فيه عن متن الحديث وسنده وطرقه من صحيحها وسقيمها وعليلها ، وما يحتاج إليه ليعرف المقبول من المردود ، وإن الأول هو الأجود لأن إدراجه فيما يحتاج إليه يحتاج إلى تكلف” فالشهيد الثاني ( قدس ) لم يكتفِ بالتعريف بل تعداه إلى الترجيح وبيان السبب والغاية ، ثم إن تمايز ابن

خلدون بالعلوم في أغراضها لا يمكن إخضاعه للأهواء والأمزجة والمتبنيات لأن الكثير من أكد على العلوم الآلية هي الغاية الواقعية للدراسة، لأنّ دراستها وسيلة و آلة من أجل الوصول إلى الغاية وهي دراسة ذلك العلم المقصود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى