
من قلب التاريخ الذي لم ينكسر، من مدينةٍ لم تُهزم رغم ما تكسَّر فيها، ومن حضارةٍ صبرت على الخيبات، نهضت بغداد لا لتقول فقط، بل لتفعل. في لحظةٍ مشبعةٍ بالرماد والمقاومة، وقفت بغدادُ، بعد عشرين عاماً على سقوط الطاغية، لترفع رأسها، لا بكبرياء فارغ، بل بطموحٍ جديدٍ يُبنى من رحم الألم، طموحٍ عراقيٍّ يُمكن أن يشكّل أفقاً عربياً جديداً.
قمة بغداد لم تكن اجتماعاً عابراً يُضاف إلى أرشيف القمم العربية، بل كانت علامة فارقة في زمنٍ يطلب من العواصم ألا تُراوغ، بل تتكلم. تكلمت بغداد، لا بلهجة الدبلوماسيين، بل بنبرة المدن التي جرّبت الموت ورفضت أن تموت، فكانت الكلمة فيها موقفاً، لا نشرة أخبار.
العراق، البلد الذي خَبِرَ الاحتلال وداعش ، لم يتبنى استضافة القمة مُثقلًا بتاريخه، بل متسلحاً بإرادة بناء مستقبل. في خطابه، لم يهادن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بل أطلق صرخة من قلب وجع غزة، ومن ضمير شعبه الذي يعرف ماذا تعني الإبادة. حين وصف ما يحدث في غزة بأنه “إبادة جماعية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا”، لم يكن يُبالغ، بل كان يضع المرآة أمام العالم، ليرى ما لا يريد أن يراه.
كان صوته صوتَ العراق، وصوتَ كل من لا يريد أن يبقى الصمتُ سيدَ الموقف. وفي زمنٍ تحوّلت فيه المؤتمرات إلى طقوسٍ جوفاء، قدّم العراق فعلًا لا قولًا، حين أعلن عن صندوقٍ عربي لإعمار غزة، وكانت بغداد أوّل من وضع فيه يدها: عشرون مليون دولار لغزة، ومثلها للبنان. لم تكن هذه الأرقام مجرد مبالغ مالية، بل مفاتيح رمزية لمرحلةٍ جديدة، يُبنى فيها التضامن على الفعل، لا على البلاغة.
ما قدّمته بغداد، كان خروجاً من لغة العاطفة إلى منطق المبادرة. في لحظةٍ كانت فيها غزة تُقصف، وسوريا تُحاصر، واليمن يُنهك، قالت بغداد: لا تُبنى الدول بالعقوبات، بل بالمصالحة. لا يُؤسَّس السلام على حساب الفلسطيني، ولا يكون الاستقرار تذكرة مرور لتجويع شعب بأكمله. هذا هو الصوت العراقي حين يُصاغ من قلب الكارثة ومن رحم التحدي.
أمام أنطونيو غوتيريش، ورئيس الوزراء الإسباني، وضيوف العالم، قدّمت بغداد وجهها الجديد: ليست دولة تتلقى، بل منصة تُقدّم. لم تكن مسرحاً تُدار عليه خطابات محفوظة، بل ميداناً حيّاً لاستعادة الوعي العربي. في القاعة ذاتها، كان الحوار يدور حول المصالحة لا الانقسام، حول الفعل لا البيانات، حول المستقبل لا المناورات.
لقد تحدث العرب في بغداد بلغةٍ بدت غريبة في سياقٍ اعتدنا فيه على الاختلاف أكثر من التوافق. أمير قطر، الرئيس المصري، ممثلو الدول، كلهم كانوا جزءاً من لحظةٍ شعر فيها الجميع أن هناك ما يمكن أن يُبنى من جديد، إن تخلّوا عن ميراث التردّد.
حتى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خرج عن صمته المعتاد، ودعا حماس لتسليم السلطة، لا من موقع الخصومة، بل من موقع إدراك الخطر الوجودي. كان ذلك التصريح اعترافًا مؤلماً بأن الانقسام الفلسطيني لم يعد مجرد أزمة سياسية، بل انتحارٌ بطيء لقضيةٍ تقاوم منذ قرن.
أما سوريا، الغائبة الحاضرة، فقد مثلها وفدٌ صامتٌ على نحوٍ يثير التأمل، بينما كانت الأنظار تتجه إلى الحدث الذي خطف الضوء: لقاءٌ بين دونالد ترامب والرئيس السوري الجديد “أحمد الشرع”. لحظةٌ رمزية أعادت إلى الواجهة سؤالًا قديماً جديداً: من يملك القرار في هذا الشرق المتحوّل؟ ومن يمنح الشرعية؟ ومن يحاسب الجلّاد؟
وسط هذا كله، وقفت بغداد تقول للعالم: لا ننتظر إذناً كي نبادر. نحن الذين نعرف معنى الخراب، نعرف أكثر كيف نؤسس للبناء. لم تنتظر الضوء الأخضر الأميركي، بل أشعلت قنديلها وسط العتمة. أعلنت دعمها لوحدة سوريا، ورفضها للتدخلات، وتنديدها بالغارات الإسرائيلية، وموقفاً صريحاً من ضرورة رفع العقوبات الأوروبية.
هذه ليست بيانات ختامية تُنسى بعد ساعات. هذه محاولة جادّة لخلق مناخ عربي جديد، عنوانه أن العراق لم يعد هامشاً على دفتر الآخرين، بل نصّاً مفتوحاً لكتابة زمن آخر.
لقد قالت بغداد كلمتها، وقالتها بالعربية. وقالتها من موقع الفاعل لا المفعول به. لم تعد مجرد شاهدٍ على ما يحدث، بل فاعلًا في ما يجب أن يحدث. قمة بهذا المستوى، بعد كل ما مرّ بالعراق، ليست إنجازاً سياسياً فقط، بل تحوّلٌ في الرؤية: من دولة تئنّ إلى دولة تبادر، من جرحٍ مفتوح إلى أفقٍ قابل للشفاء.
إنها بغداد، التي كلّما توقّعها البعض جثةً، فاجأتهم بأنها روحٌ تنهض. قمة بغداد هي رسالة تقول: من هنا، من هذه الأرض المثقلة بالتاريخ والدم، يمكن للعرب أن يستعيدوا صوتهم، ويكتبوا، مرةً أخرى، روايتهم بأيديهم.
لقد تكلمت بغداد، لا لتسأل من يسمع، بل لتُعلن أن زمن الأبواب الموصدة قد ولى، وأن العراق، بعد عشرين عاماً من الجراح، بدأ يرسم بخطاه ملامح طموح محليّ لا ينعزل، وعربيّ لا يتقوقع، بل يحلم بعالمٍ تنبع قراراته من ذاته، وتتشكل خرائطه من ضميره. لقد باتت بغداد، بحق، بوابةً لأفقٍ جديد، لا يُكتب بالحبر وحده، بل يُرسم بإرادةٍ تستلهم الماضي وتكتب المستقبل.