مقالات

الوطن بين الجَرَاح والجُرُوح

كتب رياض الفرطوسي

الوطن اليوم واقف على مفترق طرق؛ بين الجُرُوح التي تمثل الألم المستتر، وبين الجَرَاح الذي يحمل مبضعه الماهر ليعالجها. الأولى جروح عميقة في نسيج المجتمع والسياسة، آثار الفساد، التراجع الأخلاقي، الظلم النفسي، وانهيار العدالة. أما الثانية، فهي الجَرَاح البارع، الطبيب السياسي والاجتماعي، الذي يملك رؤية واضحة، ووعياً رصيناً، وشجاعة في المواجهة مع الذات والمجتمع، ليعيد ترتيب المشهد الوطني وإصلاح علل الوطن المزمنة.

كل مجتمع، مهما علت صخوره، يضم مزيجاً من المخلصين والنبلاء، ومن جهة أخرى يواجه الانحطاط والتقليد الأعمى، وثقافة التشهير، والمرجلة المزيفة، والوشاية والصبيانية التي تعرقل أي تقدم. بين هذين القطبين يعيش المنبوذون والمقهورون، أولئك الذين تتحطم طموحاتهم أمام ضجيج من لا يعرفون قيمة المسؤولية.

في زمننا هذا، تزدهر الشخصيات المسرحية والمعارك الإعلامية التافهة، ويعلو صوت الذين اعتبروا أنفسهم مشاهير، بينما يختفي صمت الجَرَاحين الحقيقيين من علماء ومثقفين ومفكرين، الذين يبنون المعرفة، ويزرعون وعياً سياسياً وعلمياً في أعماق المجتمع. هؤلاء هم من يستطيع أن يضع الوطن على الطريق الصحيح، ويعيد إصلاح الجُرُوح التي تفتك به.

الوطن بحاجة إلى مدرسة فكرية وأخلاقية، تُعلم قيم الرأي والاختلاف، السياسة والفلسفة، الاقتصاد والعدالة، وتعيد الاعتبار للمظاهر الصحيحة بعيداً عن الزيف الإعلامي وبرامج الفضائيات التي تدخل بيوتنا وتخدع عقولنا. هذه المدرسة تُعد البيئة المناسبة لرئيس وزراء يحمل مبضع الجَرَاح، ويجد الأرض صالحة للعمل، والمجتمع جاهزاً لقبول الإصلاح الحقيقي.

السياسة ليست مجرد صراع على المناصب، بل انعكاس للقيم الاجتماعية والأخلاقية والنفسية للمجتمع. عندما تصبح هذه القيم راسخة، يكون الطريق مفتوحاً أمام الجَرَاح الماهر ليعالج الجُرُوح المزمنة ويعيد ترتيب أولويات الدولة والمجتمع، بعيداً عن المصالح الشخصية والمزايدات الفارغة.

إن هذه العملية ليست سهلة؛ فهي تحتاج إلى شجاعة لمواجهة الوهم والفساد، وتعيد الاعتبار لكل ما هو مزيف، وتضع أسساً قوية للنخبة السياسية الواعية، التي تعرف قيمة نفسها وقيمة ما تقوم به. هنا يكمن الفرق بين الجُرْح الذي يترك ندوباً ، والجُرُوح التي يُمكن علاجها، وبين الجَرَاح الذي يزرع حياة جديدة، ويعيد للوطن شموخه المفقود.

الوطن إذاً بين الجَرَاح والجُرُوح: بين الألم المستمر والشفاء الممكن، بين الماضي المشوه والمستقبل الممكن البناء. ومن يدرك ذلك يعرف أن المنقذ لن يظهر فجأة، بل حين تكون الأرض ناضجة، والمجتمع واعياً، والقيم راسخة. عندها يحمل الجَرَاح الماهر مبضعه، ويبدأ رحلته في معالجة الجُرُوح المزمنة، ليعيد للوطن كرامته ومكانته، ويجعله مجتمعاً قادراً على النهوض بنفسه قبل أن ينتظر أي قائد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى