بحوث ودراساتثقافيةعراقية

مثقفون عرب صنعوا أسطورة صدّام

بقلم دكتور علي أبو الخير/ مركز تبيين للدراسات الستراتيجية

” الشهداء أَكْرَم منا جميعاً ” .. كانت تلك جملةً لصدّام حسين في إحدى لقاءاته مع الجنود الذين كان يلتقيهم بين فترة وأخرى ، وما أن أَطْلَق صدّام هذه الكلمة حتى تلقَّفها الإعلام البعثي بالشرح والبحث والمسابقات : دورة الأكرمين الكروية .. مسابقة الأكرمين للفنون الغنائية .. مسابقة الأكرمين للأطفال .
وهذا مفهوم في ظل أي إعلام استبدادي يعيش ظلام الرعب والخوف والحرب أيضاً ، ولكنّ غير المفهوم هو ذلك الحشد العربي الثقافي للتهليل بالزعيم : سوزان عطية ، وديع الصافي ، سعاد محمد ، لطفي بوشناق ، عبد الوهاب الدوكالي ، إلى آخِر القائمة الممتدة ..
مثقفون عرب في عراق صدام حسين
ضيوف العراق لا ينقطعون عن المجيء والعودة : نور الشريف ، يونس شلبي ، علي الحجار ، ضيوف على المذيعة أمل حسين .. لابد أن يتطرق الحديث إلى عراق صدّام حسين ونهْضته وانتصاره على الفُرْس وحتمية الوقوف بجانبه بجانب البوابة الشرقية .
في أغنية جماعية ينقسم الفنانون المغنّون إلى مجموعتين : مجموعة عراقية ، والأخرى عربية .. المجموعة العربية تقول بصوت صاعد متهجد ” صدّامكم صدّامكم صدّامكم فذّ ” .. المجموعة العراقية تردّ ” صدّامنا صدّامنا فذّ ” ، وهو تبشير غنائي غروبي متوحد في شخْص الرئيس القائد .
وعلى هذا علينا أن نفهم تلك الأغنية الشهيرة لياس خضر وسعدون جابر وآخَر لا أَذْكره يردِّدون : هاخوت النشامى لا تنطوا منهم واحد ، ولا تتعب سواعد ، عراقيون ما يذل لهم هامة ، هاهاهه ، هاهاهه ، هاخوت النشامى .
والنشامى هُنَا همْ جنود القادسية ، والقادسية غنَّى لها الفنانون العرب ” عيشة عراقية مثل القادسية ” كما غنّت سعاد محمد .
كان الفنانون الكويتيون أَكثَر سبقاً لذلك الحشد الفني الثقافي الذي كوَّن لوبيّاً عراقيّاً داخِل الكويت ، ربما هو الذي أَسْهَم دون وعي منه في اقتناع صدّام بأن احتلاله للكويت سيَكون مصدر ترحيب مِن فئات الشعب الكويتي المثقف ، ولِمَ لا والشاعرة المشهورة سعاد الصَّبّاح تتغنى شعراً وهي تكحل عينها بليل العراق أو تقول في قصيدة شهيرة ألقتها في أحد مهرجانات المربد : أعطني خوذة جندي عراقي أعطيك ألف أديب ؟!
وسعاد الصَّبّاح ما كانت في حاجة للمال ؛ فلديها الكثير ، ولا هي خائفة من بطْشه لكي تكيل له النفاق ، خاصّةً أنها تلميذة شاعر العروبة نزار قباني ، ولكن نزار هو الآخَر كان له حضور مستمر في المربد يجلس بجوار عبد الرزاق عبد الواحد الشاعر الذي أَوْقَف شِعْره على القائد فقط !
معادلة صعبة فعلاً .. نزار شاعر الحرية والذي كان شِعْره السياسي أَكثَر عنفاً ضد الحُكّام العرب ينحاز طواعيةً إلى مهرجان الدعاية لِصدّام حسين !
فهل انخدع نزار وانخدعَت معه سعاد الصّبّاح ومحمد التهامي وأحمد الجار الله والشيخ الكويتي القطّان والشيخ أبو إسماعيل والدكتور عبد المنعم النمر وباقي الكوكبة الثقافية الدينية التي رحلَت للعراق ؟!
هذا الأستاذ الكبير محمود السعدني الذي اختار بغداد منفىً مؤقَّتاً له يكتب في جريدة الثورة تحْت عنوان ” الآيات المتحدة الإسلامية ” تهكماً من الآيات أو المراجع في إيران ، ثم ينفرد بحوار خاص مع الرئيس صدّام حسين يتغنى فيه بالزعيم ويطابقه بجمال عبد الناصر ، وهو الذي أَفْرَد لعبد الناصر كتاب ” الطريق إلى زمش ” سارداً تجربته في سجون عبد الناصر ، وهو نفسه الذي هاجم صدّام نفسه بعد غزو الكويت !
يسأل صدّام الفنانة المصرية سهير المرشدي عن زوْجها الفنان الراحل كرم مطاوع ، وبعد قليل تقول سهير : يا ريس .. هذا أول نصْر يحرزه العرب منذ انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في حطين.
فيردّ الرئيس : لا يا سهير .. لا تنسي الانتصار المصري على العدوان الثلاثي عام 1956 وكأنه تناسى انتصار عام 1973 .
كانت سهير المرشدي وزوجها كرم مطاوع مِن ضِمْن الذين اختاروا بغداد منفىً اختياريّاً ، فبغداد جَنّة الحرية في مقابل القاهرة المستبدة ، وأن صوت مصر العروبة ربما يزيح السادات عن الحُكْم ويخلى الساحة لتصبح مصر إحدى أقطار القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي .
وزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم أخَذ على عاتِقه تصدير وترويج فكرة البوابة الشرقية التي يدافع عنها العراق .
مثقفون مصريون في عراق صدام
وقيل يوماً أن الذي أطلق البوابة الشرقية على العراق هو القاص المصري جمال الغيطاني ، وذلك عام 1975 عندما كان الجيش العراقي يخوض حرباً ضد قوات مصطفى البرازاني الكردية ، وذلك قَبْل توقيع اتفاقية الجزائر بَيْن صدّام والشاه ، ولكنْ لم أتحقق من نسبة هذا القول إلى الغيطاني ، رغْم أن هذا لا يعيبه..
ربما كان اسم ” البوابة الشرقية ” اسماً جميلاً ، ولكنه تحوَّل في أتون الحرب ضد إيران إلى معنى بائس يروِّج لشعوبية جديدة عربية .
كان لطيف نصيف جاسم بارعاً في استقدام مَن استطاع أن يستقدمه ، من أول الإعلاميين إلى العسكريين ؛ فالكل في دفاع عن بوابة العرب الشرقية ، والكل يخشى من ثورة إيران : البعض خشي منها نتيجة انفعاله اللا شعوري بالحالة القومية واقتناعه بها ، والآخَرون نظروا إلى الثورة الإيرانية كشيعة يصدِّرون مذهبهم ، مِثْل شيوخ السعودية ومعهم بعض شيوخ عرب وغيْر عرب اجتمعوا في ما سُمِّي بـ” المؤتمر الشعبي الإسلامي ” برئاسة الرجل الفاضل الدكتور معروف الدواليبي وأَصدَروا فتوى تقول بأن إيران هي الفئة الباغية .
والحقيقة أن كل شيء اختلط وتَناغَم في عراق صدّام حسين .. قالها الذين رأوا ربوع حرية صدّام ولم يروا الهاربين من جحيمه ، والذين تحدَّثوا عن شيعية الثورة الإيرانية لم يتطرقوا إلى قيام صدّام بإعدام رجال الدين شيعةً وسُنَّةً ..
فالشيخ النمر في كتابه ” الشيعة .. الدروز ” ـ والذي كان من المفترض أن يكون بحثاً علميّاً جادّاً ـ تحوَّل فيه بقدرة قادر إلى بوق يتغنى بصدّام ، رغم أنّه في الكتاب يَنتقد جمال عبد الناصر ! وهو تضادّ فكريّ مكشوف ما كان للدكتور النمر أن يقع فيه .
لقد تَساوَى الجميع وتَقارَبوا في الاعتقاد بجنة حرية عراق صدّام حسين ، وتَقارَبوا من جديد بعد غزوه للكويت في الابتعاد عنه ، اللهم إلا القوميين الذين ـ عن صدق ـ ظلوا على ولائهم له ولِفكرتهم وإن استفادوا مادِّيّاً ومهرجانيّاً في سنوات الحصار والحرب فيما بعد .
الدكتور يوسف إدريس كان له حضور متجدد في العراق : في المربد وغيْره .. مفكرته في الأهرام كانت تُنْشَر في جريدة الراصد .. يجلس في حوار تليفزيوني يُنَظِّر فيه بحتمية انتصار العراق في حربه ضد إيران، ويقارِن بَيْن ما يَحدث في العراق وما حَدَث في الجزائر أثناء حرب التحرير ، ولا ينفكّ يقول باستحياء بأنه كان أحد المتطوعين في حرب تحرير الجزائر ، ولكن السن وتَقادُمه يمنعانه من النضال في صفوف قوات العراق ، فاكتفى بالتأييد الإعلامي والتليفزيوني .
أمّا أستاذ الصحافة محمد حسنين هيكل فامتداده الطاغي يصل إلى العراق ، فهو في بحث دائم عن الذي يتخذ العروبة طريقاً للنصر على الأعداء : الفُرْس أوّلاً ، وغداً سيَكون تحرير فلسطين المحطة القادمة ..
قال في أحد لقاءاته في تليفزيون العراق بأنّ ما يَحدُث هو حرب المضايق ، وحرب المضايق ـ كما قال على ما ذكر ـ بدأَت من الغرب إلى الشرق ، فكان مضيق جبل طارق أثناء الاستعمار الفرنسي للمغرب ، ثم إلى مضايق تيران أثناء العدوان الثلاثي على مصر ، والآن ـ كما قال ـ الحرب تَدُور رحاها عند مضيق هرمز ، وربما كانت الحرب القادمة في مضايق جديدة في الشرق من هرمز ، وأكَّد أن الانتصار سيَكون حتماً لِصاحب المضيق ، ولكنه لم يَقُلْ مَن هو صاحب المضيق ، وإن كان فُهِم من كلامه أنّه العراق الذي يمثِّل العرب على الشاطئ الغربي للخليج العربي أو الفارسي ، وترك لنا تصديق أو تكذيب أو عدم فهْم ما يقول !
ولكنّ المؤكَّد أن زيارته للعراق كانت تتويجاً لمسيرة الإعلام البعثي الذي قاده نصيف جاسم ؛ فوزن هيكل الصحفي والسياسي يعطي انطباعاً أن العراق يمثِّل حقيقة العرب ووحْدتهم ومستقبلهم المُشْرِق .
الفريق أول محمد فوزي يذهب إلى العراق ـ وذلك بَعْد احتلال إيران لِشِبْه جزيرة الفاو ـ فيتحدث تليفزيونيّاً فيقول أن الرئيس يَعلم جيِّداً كيف يصفِّي الفاو من الجنود الإيرانيين .. طبعاً لم يشرح لأن ذلك من الأسرار العسكرية ..
استطاع العراق أن يصفِّي الفاو بطريقته الكيماوية بموافقة ودعم أمريكي .
الوفود المصرية والعربية التي لا تنقطع عن بغداد تآلفَت على الرؤية العراقية الرسمية سواء للحرب على إيران أو للترويج لقيادة صدّام ، والذين خسروا معنويّاً وليس ماليّاً همْ أصحاب إذاعة صوت مصر العربية ؛ فقدْ أُغْلِقَت الإذاعة بعد تحسين العلاقات مع مصر وزيارة الرئيس مبارك لبغداد ..

إذاعة مصر العروبة
جمعَت الأشتات من المصريين الذين نفوا أنفسهم أو نفتهم السلْطة ظلَّت تهاجم نظام الرئيس السادات وتشمت في مصرعه وتهاجم نظام مبارك أيضاً ما لبثَت أن أَغلَقَت أبوابها ، وعاش عبد الغنى قمر والأديب محمد الغزالي وغيْرهما في نعيم مادي دون أن يمسهم ضيْر معنوي سِوَى أن معارَضتهم للنظام المصري العلنية توقفَت ولم يَعُدْ لها مبرر ؛ فالقيادة العراقية حسَّنَت علاقاتها مع مصر والسعودية والكويت وباقي الدول العربية باستثناء سوريا ؛ للخلافات المعروفة البعثية والتي تُوِّجَت بإعدام محمد عايش ورفاقه بتهمة العمالة لنظام حافظ الأسد .
أمّا ليبيا فكان التأرجح البعثي بين كسْب العقيد أو مهاجَمته ؛ فالعقيد لا يستقر على وضع سياسي واحد ؛ فهو مؤيِّد لإيران في البداية ، فقامت صحف العراق بمهاجمته وسبّه والقول بأن أمه يهودية ، ولكنّه بعد قليل ما لبث أنْ هاجم إيران ، فسكتَت الصحف العراقية على أمل أن يأتي العقيد داعماً لنظام شقيقه صدّام .
لقد انتصر صدّام حسين في حرب إعلامية ضاغطة ومؤثِّرة على قطاعات واسعة من الشعب العربي رسميّةً وشعبيّةً ؛ فقدْ كان هوساً إعلاميّاً بصدّام وبالعروبة وبالنصر القادم لا محالة .
لقد تذكَّر الذين ذهبوا إلى صدّام حسين إعلانه في 8 شباط 1980 والذي أذاعه في ملعب الشعب الدولي، والذي دعا فيه إلى منْع استخدام القوة المسلَّحة في النزاعات التي تنشأ بين الأقطار العربية لأي سبب كان ، ودعا فيه إلى حل هذه النزاعات في إطار العمل العربي المشترك ..
بعد غزو الكويت
تذكَّر جميع من أيَّدوا صدّام إعلانه يوم أن غزا الكويت ونقدوه وهاجموه دون إحساس بخجل سياسي ، فلكل مقام مقال ، وليس لكل دولة رجال ! تحوَّل الأسطورة إلى طاغية إلى مستبد غازٍ لدولة عربية ، لم يراعِ حق الجيرة والأخوة .
وتحطمَت بعض الأسطورة بعد غزو الكويت ، وإن ترادفَت معانٍ جديدة أثناء سنوات الحصار ؛ فنحن ضد أمريكا التي تحاصر الشعب الشقيق ، وعلى استحياء وضد صدّام حسين ، وهى معادلة صعبة استطاع صدّام أن يتخذ منها حائطاً يقيه شرور الحرب ، حتى سقطَت بغداد واستسلم الزعيم في النهاية ، فسقطَت كل الرموز التي تلعب على كُلّ ما تعتقد أنه سيوصلها إلى النصر ، وهو نصر لن يأتي طالما ظل صدام في بعضنا ووجد من يدافع عنه ويؤرخ له .

سائق الغوغاء
تخطيت رؤوس غوغائك
وانتشيت بهتافهم بحب مزعوم
فاشرأب عنقك ودست رقابهم
وقلت أنا منكم
لو اصطليت بحب جارف
وبدموع لا تبكى مرارة الحب الزائف
لنزلت من خيلاء نفسك
وترحمت على الغوغاء
ولكنت منهم واليهم تعود
وتصبح هدفاً في كل فكر
وحياة في كل نفس
…………………
وقفت ترفع يديك
وتستمتع بخيلاء لهتاف الإناث
اللواتي فقدن آباءهن
أو أزواجهن
أو أبناءهن
ولم تعرف أي دموع ينزفن أمامك
يا سائق الغوغاء
ادفع أوهام روحك عن أرض تعيش فيها وحيدا
رغم هتاف الغوغاء بالروح والدماء
ماذا ستقول للغوغاء حين تُهزم
وعندما تلعق الجراح بعد أن تشبهت بسعد
حينما انتصر فوق غرور رستم
أي حديث تعلن
غير مقبول من الغوغاء
الذين صنعوا الأصنام وحملوها
فوق جدران أنفسهم القاحلة
وضجة الغوغاء تعميك
عن صورة الحب الأليف
حيث الأمل في رحيل لك
ينتشي الغوغاء منه
ماذا تقول للغوغاء حين تعود ؟
ستقبل تراباً وطأته أقدامهم
وستحملك الريح إلى بعيد
حيث نعيق بوم
وحدك لا أنيس لك
وتحاول أن تكون واحداً منهم
لكنك لن تستطيع
فالغوغاء لن يكونوا يومها غوغاء
راقب وجوه الغوغاء
وستعرف أنها مرآه نفسك النرجسية
فدع الغوغاء للحياة
قبل أن يلفظوا
أصنامك
وصورك
ورموزك
وقبل أن يسحلوا
في شارع الرشيد
بغداد في 21/5/1982

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى