باحثة في التاريخ السياسي المعاصر
* تمهيد للبحث :
هذه خواطر عن الدور التربوي للإمام الخميني الذي استقاه من التراث الإسلامي ، من القرآن العظيم ومن سيرة أشرف المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وسير الأئمة من آل البيت الكرام عليهم جميعا السلام ، والخواطر عن الدور التربوي الذي قام به الإمام للأمة يعيدنا للهدف السامي الذي قامت من أجله الثورة الإسلامية عام 1979 وهو إقامة شريعة القرآن وإعادة العدل إلى نصابه ، ولا نكون مغالين إذا قلنا إن الإمام الخميني أعطى مساحة واسعة من التطبيق الحي للقرآن العظيم ، فسلام على الإمام في جنات النعيم.
من الثابت علميّاً أن الإنسان يولد صفحة بيضاء ، خالية من أي اتجاه أو تشكل للذات ، وإنما يحمل الاستعداد لتلقي العلوم والمعارف وتكوين الشخصية والتشكل وفق خط سلوكي معين ، لذا نجد القرآن الكريم يخاطب الإنسان بهذه الحقيقة، ويذكِّره بنعمة العلم والتعليم والهداية ، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والإبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
ويترجم الإمام علي عليه السلام هذه الحقيقة العلمية فيقول: (وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما ألقي فيها من شيء قبلته) .
وشرح العلامة الحلي مراحل تكوُّن المعرفة لدى الطفل فقال: (اعلم أن الله خلق النفس الإنسانية في بداية فطرتها خالية من جميع العلوم بالضرورة ، قابلة لها بالضرورة ، وذلك مشاهد في حال الأطفال .
ثم إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك ، وهي القوى الحساسة ، فيحس الطفل في أوَّل ولادته ، يحس لمس ما يدركه من الملموسات ، ويميز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدرج بين أبويه وغيرهما .
وكذا يتدرج في الطعوم وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلق بتلك الآلات ، ثم يزداد فطنة فيدرك بواسطة إحساسه بالأمور الجزئية الأمور الكلية من المشاركة والمباينة ، ويعقل الامور الكلية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية ، ثم إذا استكمل الاستدلال ، وتفطن بمواضع الجدال ، وأدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكسبية ، فظهر من هذا أن العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية ، والعلوم الضرورية الكلية فرع على المحسوسات الجزئية) .
من هذا الشرح لمدلول الآية تتحدد نظرية المعرفة في الإسلام وكيفية تكونها لدى الإنسان منذ نشأته الأولى ، مؤصَّلة على قاعدة قرآنية .
وعلى هذا الفهم وتلك الأسس العلمية لتلقي المعرفة وتكوُّن الشخصية تبتني النظرية التربوية في الإسلام ، ويبدأ تكليف الأبوين في إعداد الطفل وتربيته وتعليمه .
والتربية في مراحلها الأولى هي مران وتدريب سلوكي عملي يتلقاه الطفل عن طريق الحس من أبويه فيكتسب منهما السلوك والأخلاق والعادات وطريقة التعامل ، لذا فإن السلوك العائلي ومحيط الأسرة الثقافي يؤثران تأثيراً بالغاً في تكوين الشخصية واتجاهها المستقبلي.
أما التعليم فهو تلقي العلوم والمعارف لتكوين عقلية الإنسان وطريقة تفكيره وثقافته ، وتشكيل صبغة الهوية الفكرية لشخصيته; لذا جاء في الحديث الشريف: (ما من مولود يولد إلا على هذه الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه).
ولأهمية التربية في بناء الشخصية والسلامة النفسية من العقد والانحرافات وأثرها في سعادة الإنسان وشقائه في مستقبل حياته وآخرته ودورها الفاعل في حضارة المجتمع وتقدمه العلمي والتنموي أكد الإسلام الاهتمام بالتربية وتوجيه الطفل والعناية الفائقة به سيّما في سنيّه الأولى ؛ فالتربية تؤثر على أمن المجتمع وصحته ونظافة بيئته وإنتاجه الاقتصادي واستقراره السياسي وتقدمه العلمي والحضاري .
فالطفل الذي ينشأ كسولاً مهملاً لا يمكن أن يكون إنساناً منتجاً يعرف كيف يوظف وقته وطاقته ، ويطوِّر إنتاجه وقدراته ، أو يواصل تحصيله العلمي والخبروي ، والطفل الذي ينشأ مشرداً متمرداً نتيجة لسوء تعامل الأبوين أو المدرسة أو السلطة من الصعب أن يكون إنساناً ملتزماً بالقانون ، يحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي لبلده وأمته ، والطفل الذي يعيش في بيئة شاذة أو يُربّى تربية منحطة تترك تلك التربية تأثيرها في سلوكه فتجني عليه ، وتصنع منه إنسانا مجرماً معذَّباً في حياته وشقياً في آخرته .
فقد أثبتت التجارب والإحصائيات العلمية التي أجراها الباحثون أثر التربية في تكوين الفرد والمجتمع فجاءت متطابقة مع تشخيص الرسالة الإسلامية ومقرراتها العلمية في التربية نذكر منها :
تقول معظم الدراسات التي أجريت في العالمين العربي والغربي بأن سني الطفولة الأولى هي سني تكوين الشخصية الإنسانية وتنمية المواهب الفردية ؛ فالولد يكتسب من احتكاكه بمحيطه ردات فعل على المثيرات الخارجية بحيث تكتمل نصف ردات فعله الثابتة في حياته في السنوات الأولى من حياته ، وبديهي أن يكون للقيم السلوكية الايجابية والسلبية السائدة في محيطه العائلي دور فعال ومؤثر في تكوّن طريقة تعامله مع الغير .
وتثبت الأبحاث التربوية ايضاً أن تكوّن الصورة الذاتية لدى الطفل منذ حداثة سنه تؤثر في نظرته إلى نفسه طيلة سني حياته ، فإذا تكونت لديه صورة سلبية عن مقدرته ومكانته في عائلته بأن شعر نفسه مهملاً دون دور معين في محيطه العائلي لا يثير اهتمام أحد كأن وجوده أو عدمه سيّان نمت لديه صورة قاتمة عن مكانته في المجتمع ما تلبث أن تترجم بتصرفات تؤدي الى اثبات الوجود عبر سياق تعويضي يتصف بالعنف أو بالمشاكسة أو بالانحراف ، وبالعكس إذا وجد الرعاية والمحبة والعاطفة والتقدير والتشجيع بين أفراد أسرته زهت صورته عن نفسه ونمت مقدراته ومواهبه وأصبح يشعر بإشراقة مضيئة تشع من شخصيته فتؤهله للقيام بدور فعال في حياته العائلية ومن ثم المدرسية والمهنية والاجتماعية .
أثبت التقرير الذي وضعه كولمان نتيجة لأبحاثه التربوية المؤيدة بالأبحاث التي قام بها المجلس الاستشاري المركزي للتربية في انكلترا أن خمسين بالمائة من ذكاء الأولاد البالغين السابع عشرة من عمرهم يتكون بين فترة تكون الجنين وسن الرابعة. وأن خمسين بالمائة من المكاسب العلمية لدى البالغين ثمانية عشر عاماً تتكون ابتداءً من سن التاسعة ، وأن 33% من استعدادات الولد الذهنية والتصرفية والمقدامية والعاطفية يمكن التنبؤ بها في سن الثانية ، وتصبح درجة التنبؤ 50% في سن الخامسة .
وتضيف دراسة أخرى أن نوعية اللغة التي يخاطب بها الأهل أولادهم تؤثر إلى حد كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب وللقيم السلوكية لديهم ولمفاهيمهم ودورهم وأخلاقيتهم .
ويعتبر الإسلام أن من أهم مكاسب الإنسان في الدنيا أن يكون له ولد صالح ، سَوِّي الشخصية والسلوك ؛ فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: (من سعادة الرجل الولد الصالح) ، وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له) .
إن الإسلام الذي نزل على محمد رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – هو الإسلام الرسالي الشامل لكافة أركان الحياة ، ودائما يبدأ الإسلام رسالته الخاتمة بتربية الإنسان منذ بداية تكوينه الجسدي والعقلي والنفسي ، وهذا الأساس التربوي هو الذي يسهم في تشكيل النواة الإنسانية المؤمنة المتكاملة ، وقد مثل الإسلام المحمدي قمة المثالية في الترتيب النهائي الذي طمحت له البشرية في مسيرتها ، الأمر الذي فجر ينابيع الخير في نفوس المشتاقين للحق والعدل والإنصاف ، ولذلك كله فلا غرابة في أن تكون الأسس التربوية مترسخة عند الإمام الخميني ، وأن يكون دوره التربوي للأمة دورا حيويا مفعما بالأمل وإعادة الأمور إلى نصابها الإسلامية الحقيقية ، ومن أجل أن نستكشف الأسس الملهمة للإمام نجدها في ثنايا هذا البحث ..
* القرآن والبعثة عاملان للتربية :
إن أحد أهداف الكتاب والبعثة أنه بعث رسولاً منكم يتلو عليكم القرآن والآيات الإلهية {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} ؛ فقد تكون هذه غاية التلاوة أي التلاوة من أجل التزكية ، ومن أجل التعليم ، من أجل التعليم العام ، تعليم هذا الكتاب وتعليم الحكمة والتي هي أيضاً من هذا الكتاب ، فالهدف من البعثة هو نزول الوحي ونزول القرآن والهدف من تلاوة القرآن على البشر هو تحقيق التزكية وتصفية النفوس من هذه الظلمات الموجودة فيها حتى تصبح الأذهان والأرواح بعد هذه التصفية مستعدة لفهم الكتاب والحكمة .
* الأبعاد التربوية للإسلام :
يريد الإسلام أن يبني بناءً شاملاً ، أي ينمّيه بالشكل الذي هو عليه ، إذ له نصيب في الطبيعة فينميه طبيعياً ، وله نصيب في عالم البرزخ فينميه برزخيّاً ، وله نصيب من الروحانية فينميه روحانياً وله نصيب من العقلانية فينميه عقلانيّاً وله نصيب من الألوهية فينميه إلهيّاً ، فجاءت الأديان لإيصال الإنسان الناقص إلى الكمال في جميع أبعاده ، وإنضاج هذه الثمرة غير الناضجة .
الأهداف التربوية للإسلام :
يريد الإسلام أن ينضوي الناس تحت لوائه لكي ينقذهم من المصيبة والحيرة التي هم عليها ، حيث يطرقون مختلف الأبواب من أجل العثور على الكمال وهم بأنفسهم أيضاً ، لا يدرون ما هو الكمال المطلق ، ويريد الإسلام أن يهدي الجميع إلى الصراط المستقيم ويوصلهم إلى النهاية ؛ إذ أن كل ما هو موجود في الإسلام مسخّر من أجل صلاح الشعوب والإنسان ، ويريد الإسلام إعادة المنحرفين إلى الطريق المستقيم إلى طريق السلامة ، وليكون الجميع أخوة فيما بينهم ومتحابين مثل أهل الجنة {إخواناً على سرر متقابلين} ؛ إذ لا يوجد أي حقد أو حسد هناك ، والكل طاهرون .
* المنهج التربوي الثوري الحسيني :
إن التربية الثورية إنما ينهض بها القادة التاريخيون الذين يهدفون إلى تحرير الإنسان من أسار وضع اجتماعي فاسد , ولبناء مجتمع صالح على أنقاضه ، وعندما يصبح مثل هذا الهدف هو الهاجس الوحيد للقائد التاريخي عندها يبدأ عملية التعبئة الفكرية والروحية بهذا الاتجاه وتلتحق به النخبة المختارة التي ترتضي هذا الهدف محوراً لحركتها وهمومها ومواقفها ، وهو ما عبر عنه الدكتور طه الديواني في بحثه عن الأثر التربوي الحسيني ، في مجلة التوحيد الصادرة في إيران من العام 1409 للهجرة الشريفة ، لأن الإسلام العظيم بصفته الدين السماوي الخالد , الذي اختاره الله تعالى للبشرية جمعاء يهدف إلى إخراج الناس من عبودية العباد والطواغيت إلى عبودية الله وحده ؛ قال تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} ، وهذا بدوره سيؤدي إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن الفساد والانحلال والفوضى إلى الخير والأمن والازدهار ، وقد أوكل هذا الهدف العظيم إلى أنبياء الله المرسلين وإلى خاتم الأنبياء وإلى أوصيائه النجباء ؛ قال تعالى {هو الذي ينزل على عبده آيات بينان ليخرجكم من الظلمات إلى النور} ، ومن هنا فعندما ينحرف الحكام عن الإسلام العظيم ويبغونها عوجاً ويتحولون إلى طواغيت يهلكون الحرث والنسل ويعشون في البلاد والعباد فساداً , كما حصل عندما استولى الأمويون على السلطة وأخذوا يمارسون أنواع الظلم والجور ويرتكبون أنواع المحرمات والمنكرات ويعملون في عباد الله بالإثم والعدوان ويخالفون سنة رسول الله ويستأثرون بالفيء من دون المسلمين .
لا بد حينئذ للقائد التاريخي أن يتصدى بكل جرأة وشجاعة لهذا الانحراف والعمل لإرجاع الأمور إلى نصابها , وإلا فإن أمر الأمة المسلمة سينتهي إلى الانهيار والانحلال وضياع القيم التي أرساها الرسول الأعظم (ص) ، وهذا حال لا يمكن السكوت عليه ، وهكذا كان وعي القائد التاريخي الإمام القائد الحسين بن علي (ع) ، وكان يصرح بهذا مراراً , ولذلك اتجه الإمام القائد (ع) إلى إعداد النخبة المؤمنة وتهيئتها وتربيتها للقيام بالدور التاريخي المطلوب دون الإقلال من أهمية وضرورة إحداث وعي متزايد لدى جماهير الأمة المسلمة لتتحمل مسؤوليتها الشرعية أيضاً . ومن هنا نجد أن الإمام الحسين (ع) قد اختار أنصاره واختار لهم الدور العظيم والخطير , ووُفِّقوا هم لأداء هذه المسؤولية الكبرى .
وهنا يثور سؤال : ما هو منهج الإمام الحسين (ع) في التربية الجهادية الثورية ؟ وكيف جعل الأنصار والأصحاب ينهضون لأداء دورهم بكل إخلاص وحماس ؟!
للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نحدد أوّلاً أهم عناصر المنهج الثوري عند الامام الحسين (ع) لنرى بعد ذلك كيف نهض الإمام القائد به , وكيف ربى أنصاره وسيرهم عليه ..
يمكننا أن نحدد أهم العناصر الأساسية لهذا المنهج بالآتي :
1- الوعي والتبصير ووضوح الهدف .
2- الإيمان المطلق بالقيادة والوفاء لها .
3- الاستعداد العالي للتضحية .
4- الانضباط التام .
هذه – من وجهة نظرنا – أهم عناصر المنهج الثوري عند الإمام الحسين (ع) ، فلنتبين كيف كان (ع) يعدّ أصحابه ويربيهم وفق هذا البرنامج (المنهج) ..
أوّلاً : الوعي والتبصير ووضوح الهدف :
إن الوعي والبصيرة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان أمر ضروري جدّاً لأي عمل أو دور يريد أن يؤديه , فلا يمكن للإنسان السير في الطريق إلى الهدف بدون تلكؤ أو تعثر ما لم يكن على بينة من أمره ووضوح في هدفه ، واستناداً إليه فقد وجدنا الإمام الحسين (ع) يحدد الهدف بوضوح ويرسم للمجاهدين الطريق ويتبين معالمه بوضوح أيضاً ؛ قال الإمام (ع) : أيها الناس .. إني سمعت جدي رسول الله (ص) يقول :” من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله” ، ثم قال مشيراً الى السلطة الأموية الغاشمة :” ألاَ وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان , واستحلّوا حرام الله واستأثروا بالفيء ” ، وهكذا حدد الإمام القائد الهدف الذي يتمثل بضرورة إزالة مثل هذا الحكم المتسلط الجائر واجتثاث الفساد , فيزيد – الحاكم الأموي – فاسق فاجر شارب للخمر ومعلن بالفسق ، وفي ضوء هذا نرى أنه لم يكن أمام الأصحاب والأنصار إلا الإطاحة به وتخليص البلاد والعباد منه .
ثم إن الإمام القائد (ع) مع تحديده لهذا الهدف المباشر من حركته وثورته إلا أنه يضع أنصاره وتابعيه أمام مسؤولية أعظم ، ويبصرهم بأنه مع أهمية هذا الهدف إلا أنه لا ينبغي أن يكون هذا هو هاجسهم الأكبر ؛ بل يجب أن تكون الإطاحة بالنظام المتسلط تمهيداً لإقامة حكم الله بتحكيم شريعته أي الإسلام العظيم , ولذلك صرح الإمام الحسين (ع) قائلاً :”إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً , وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي …” ، فالمطلوب تحديداً هو الإصلاح الجذري وتحويل مسار الأمة إلى الاتجاه الصحيح أي إلى اتباع سيرة النبي (ص) .
ويتضح لدينا من هذين الخطابين أن الإمام (ع) في صدد تبصير النخبة المؤمنة وكذلك الجماهير بالخروقات والتجاوزات التي ترتكبها السلطات الأموية الحاكمة ضد الإسلام وسيرة وسنة الرسول الأعظم ، مما يضع الإنسان المسلم وجهاً لوجه أمام اختبار واحد لا غير : وهو أن يشهر السلاح فيقاتل لتغيير مثل هذا الواقع السياسي الفاسد ، وليوطن المؤمن حينئذ نفسه في لقاء ربه ؛ قال الإمام عليه السلام : “ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ؟! ألا فليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإني لا أرى الموت إلا سعادة , والحياة مع الظالمين إلا برما…” .
وهنا في غمرة تهيئة ذهنية المسلم ونفسيته للمواجهة الحاسمة مع النظام المتسلط وتعبئته بهذا الاتجاه فإن الإمام القائد – عليه السلام – يذكِّر أصحابه باستمرار بأن العمل الجهادي لا يقتصر على مجرد الإصلاح أو تغيير النظام فحسب ؛ بل يجب أن يكون الهدف دائماً أكبر من ذلك , وهو تحكيم شريعة الله تعالى , ولذلك وجدناه يقول :”وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ؛ فإن السنة قد أميتت , والبدعة قد أحيت …”، ثم يقول – عليه السلام – في خطاب آخر : ” ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان , وتركوا طاعة الرحمن , وأظهروا الفساد , وعطلوا الحدود , واستأثروا بالفيء , وأحلّوا حرام الله , وحرّموا حلاله ” ، وهكذا يظهر أن الإمام الحسين (ع) يبصر المسلمين بأنه عندما تنحدر الأمور إلى الحالة الموصوفة فينكر المعروف ويستمرئ الناس المنكرات وينظر إلى الحق فلا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه فلا بد حينئذ من الانتفاضة المسلحة والثورة العارمة لإعادة الحق إلى نصابه ولإيقاف حالة الانهيار والتداعي في الأمة ، والانتفاضة المسلحة تعني الدخول في المواجهة الحاسمة مع النظام المتسلط ..
وهنا نجد الإمام القائد (ع) يحدث وعياً متزايداً ومهمّاً بما تتطلبه مثل تلك المواجهة المسلحة , فلنستمع إليه يقول :”يا أهل الكوفة .. أنتم الأحبة الكرماء , والشعار دون الدثار .. جدّوا في إطفاء ما وتر بينكم وتسهيل ما توعر عليكم .. ألا وإن الحرب شرها مريع وطعمها فظيع , فمن أخذ لها أهبتها واستعد لها عدتها ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها , ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمين أن لا ينفع قومه وأن يهلك نفسه …” ، فها هنا نجد الإمام القائد يبصر الأتباع والأنصار باشتراطات المواجهة المسلحة مع النظام بغية حصد النتيجة وقطف الثمرة المرجوة أي الظفر والانتصار ، ويتضح من كلماته – عليه السلام – وعباراته أن المطلوب – على وجه التحديد أوّلاً – هو أن يكون جميع الثوار والمنتفضين في وجه النظام المتسلط الجائر على حالة من الصفاء والانسجام فيما بينهم ؛ لأن هذا شرط أوليّ وأساسي لكسب المعركة .. إن حالة الانسجام تلك لا يمكن أن تتحقق دون أن يكون بين الجميع تفاهم وتآلف , ودون أن يكونوا أيضاً على درجة واحدة من نكران الذات وتذويب الخصوصيات لحساب الهدف الأعظم ، وعند ذاك كما يقول الإمام (ع) :”يسهل ما توعر” ويحصل الانسجام المطلوب .
ثم يبين الإمام بعد ذلك ويلفت الانتباه إلى أمور خطيرة في شأن المواجهة المسلحة , منها ضرورة التبصر بأمر الحرب وما قد تجرّه من ويلات وعذابات “فطعمها فظيع” ، وهذا بالضرورة يقود الى أهمية أخذ الأهبة وإعداد العدة والعدد , ولكن الأهم من كل ذلك في تقدير الإمام القائد (ع) هو أن لا يتعجل المجاهدون المواجهة قبل حلول الفرصة المناسبة أي قبل نضوج الظروف الموضوعية للانتفاضة المسلحة , أي أن من الضروري أوّلاً أن تصبح الانتفاضة أو الثورة حاجة مسلحة وطلباً جماهيرياًّ جدِّيّاً وحقيقيّاً ؛ “فلقد اجتمع زعماء المعارضة من أنصار الإمام الحسين (ع) في الكوفة في بيت سليمان بن صرد الخزاعي واستعرضوا الأوضاع السياسية والاجتماعية وموت معاوية وانتقال السلطة إلى يزيد , وتباحثوا في ضرورة تحرك الإمام الحسين (ع) ، وقرروا نصرته والانضواء تحت قيادته وإمامته وإعلان الولاء له ومكاتبته” ، وهنا نذكر نص آخِر كتاب وصل إلى الإمام : “للحسين بن علي – أمير المؤمنين – من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (ع) .. أما بعد فإن الناس ينتظرونك , لا رأي لهم غيرك , فالعجل يا ابن رسول الله ؛ فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشيت الأرض وأورقت الأشجار , فاقدم علينا إذا شئت ؛ فإنما تَقدم على جند لك مجندة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك” .
كما اجتمع ناس في البصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت سعدة , وكانت تتشيع ، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدثون فيه ، فعزم يزيد بن نبيط على الخروج إلى الحسين (ع) “وهو من عبد القيس” ، كما أجاب فريق من أهل البصرة كتاب الإمام الحسين (ع) , منهم يزيد بن مسعود الذي جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد وحثهم على نصرة الحسين (ع) وحذرهم من الخذلان ، وكان سليمان بن صرد الخزاعي قد خطب فيهم قائلاً :”إن معاوية قد هلك , وإن حسيناً قد تقبض على القوم ببيعة وقد خرج إلى مكة , وأنتم شيعته وشيعة أبيه , فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه وتقتل أنفسنا دونه فاكتبوا إليه وأعلموه ، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل ” ، قالوا : “بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه”.
وحتى مع توافر هذا العامل المهم فلا بد أيضاً من تهيئة مستلزمات الظفر والنصر أي كسب المعركة ، ومن جملة ذلك – بل على رأس الأولويات – هو أن تتمتع الكوادر الجهادية بقوة رصد الأحداث والقدرة على استكشاف الإمكانات الخبيثة للعدوّ , تلك الإمكانات التي قد يزج بها العدوّ في المعركة والتحسب لها ، مع امتلاك القدرة على فك أية تعقيدات يمكن أن تنشأ أثناء الحدث الثوري أو قبل وقوعه , وإلا فربما يؤدي ذلك إلى النكوص والإحباط والفشل .
إننا نستكشف من خلال هذه التوصيات والبرامج التي وضعها الإمام القائد أنه (ع) كان يعدّ أتباعه وأنصاره ويربيهم استناداً إلى هذه الأساسيات التي تتمثل بالوعي المتزايد ووضوح الهدف .. هذا من جهة , ومن جهة أخرى نستطيع أن نستكشف أيضاً أن الإمام القائد (ع) كان يهيئ الأمور لمثل هذا المستوى ويوفر العوامل الطبيعية للظفر .
ثانياً : الإيمان المطلق بالقيادة والوفاء لها :
لا يمكن للإنسان الذي يثور في وجه الواقع الفاسد ويسعى إلى تغييره أن يصل إلى الهدف المعلن ما لم يؤمن بقيادة مؤهلة ويكون وفيّاً لها ، وأعني بها تلك القيادة الشجاعة التي تتصدى بكل جرأة لتحقيق هدف إسقاط السلطة وتسلم الحكم .
إن مِن غير المتصور أن ينهض الجمهور دون قيادة شجاعة تدير دفة المعركة وتحسن المناورة والمصاولة , كما أن مِن غير المتصور بلوغ الهدف من دون وجود العلاقة المذكورة بين الأتباع والقائد ؛ فكما أن بعفويته وحماسته وجرأته لا يتمكن من خوض المواجهة المسلحة بدون القيادة الشجاعة كذلك القائد ؛ فهو لا يستطيع أن يقود المنازلة حتى النهاية بدون أن يكون الأتباع والأنصار على إيمان مطلق ووفاء تام لتلك القيادة , وإلا فإن الارتجالية والعفوية ستسود ساحة المواجهة , والخاسر فيها من يفتقد زمام السيطرة والتحكم في أتباعه وأنصاره وجماهيره .
هنا وجدنا الإمام الحسين (ع) يربي أتباعه ويعبئهم روحيّاً وفكريّاً ليكونوا على هذا المستوى من الإيمان والوفاء ، ونحن إنما نستطيع أن نطلق القول بذلك إذا نظرنا إلى الأنصار والأتباع في ساحة المواجهة وفي ساحة اصطكاك الأسنة , وحتى مع عدم الرجوع إلى مواقفهم وأسلوب منازلتهم الأعداء فإن لنا في الوسام الذي قلده الإمام الحسين (ع) إياهم خير دليل ؛ فقد قال (ع) في حقهم : “إني لا أعلم أصحاباً أوفى من أصحابي …” ، وكفى بذلك دليلاً وبرهاناً على ما قلناه ، ولولا تلك التربية وذلك الإعداد الروحي والنفسي والفكري لما وصلوا إلى مثل هذه المرتبة من الاستعداد لنيل الشرف والكرامة , ولما استحقوا مثل هذا الوسام الرفيع من سيد الشهداء الإمام القائد الحسين بن علي ..
إن الرجوع إلى ملاحم بطولاتهم وجرأة مواقفهم وعظيم صبرهم في عرصة كربلاء ما يزيد هذا البرهان سطوعاً وهذه الحقيقة جلاءً , وفي هذه النقطة لا أرى ضرورة لسرد ملاحم البطولة التي سجلها الأنصار الأبطال ؛ فهي من الشهرة بمكان , ومن الشيوع والانتشار مما لا نحتاج إلى بيانه في إثبات هذا المطلب , ولكن أكتفي بهذا الموقف : طلب الإمام الحسين (ع) من أصحابه التفرق عنه لأن القوم لا يريدون غيره , فقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال :”لا – واللَّهِ – يا ابن رسول الله لا نخليك أبداً حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصية رسول الله محمد (ص) ” ، ثم قال :”واللَّهِ لو علمتُ أني أُقْتَل فيك ثم أحيا ثم أُحْرَق ثم أُذَرَّي يُفْعَل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقي حمامي دونك …” ، وقال زهير بن القين :”واللَّهِ يا ابن رسول الله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ألف مرة , وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك …” ، وقال مسلم بن عوسجة مثل ذلك : “لا أفارقك أو أموت معك ” .
ثالثاً : الاستعداد العالي للتضحية والانضباط التام :
إن الإنسان الذي يضع نصب عينيه هدفاً كبيراً وعظيماً لا بد أن يحسب حسابه للتضحية والاستعداد العالي للتحمل في سبيل الوصول إلى مثل هذا الهدف ، ومن هنا كان لا بد للقائد التاريخي الذي يتحمل مسؤولية تاريخية عظمى ويريد النهوض بأعباء الثورة العارمة لا بد أن يثير أصحابه ويستفز فيهم كل دواعي الاستعداد للتضحية وأعلى درجات القدرة على التحمل والصبر أي الصبر على حر السلاح وملاقاة الحتوف ، وهذا ما فعله الإمام القائد (ع) تماماً ، وكما يظهر من خطاباته وتوصياته أنه كان يعدّ أصحابه ويربيهم على هذه المعاني , فلنسمعه في قوله (ع) : “أيها الناس .. إنما جمعتكم على أن العراق لي , وقد أتاني خبر فظيع عن ابن عمي مسلم يدل على أن شيعتنا قد خذلتنا , فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام” ..
هكذا إذن بكل وضوح وصراحة وبجرأة وشجاعة القائد التاريخي الذي لا تزيده كثرة الناس حوله شجاعة ولا قلّتهم ضعفاً وتراخياً عن هدفه يقف الإمام واضعاً حقيقة الموقف وأبعاده وملابساته وكل ما يكتنفه من ظروف ومستجدات , يضع كل ذلك أمام الأتباع والأنصار .. إنها إذن المواجهة الحاسمة والمصيرية التي تطير فيها الرؤوس وتكون الأجساد عرضةً للطعن وهدفاً للسيوف .. إنها المواجهة التي يقبل فيها الناصر ويتكاثر المتخاذلون ويقعد فيها الناس , فلا يتصدى ولا ينهض حينئذ إلا من وطَّن نفسه على منيته ووضع روحه على راحته لا يبالي أوَقع على الموت أم وقع الموت عليه .
إننا نستفيد من هذه الخطبة أن القائد التاريخي لا يتردد في إطلاع وإعلام من معه في حركته الجهادية على حقيقة الموقف أولاً بأول دون مواربة ولا تضليل ولا خداع , وإننا نلمس بكل وضوح أن الإمام الحسين (ع) اعتمد مبدأ المصارحة ؛ فهو منذ اللحظة الأولى قد صارحهم بما سيؤول إليه الأمر من قتله وقتل من معه من أهل بيته ، وبذلك وضع الموت أمامهم على أنه الحقيقة التي عليهم مواجهتها والاستعداد الكافي لها ، فقد قال مثلاً منذ لحظة انطلاقته وبدء مسيرته الجهادية : “خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة , وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف , وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء .. لا محيص عن يوم خط بالقلم , رضي الله رضانا أهل البيت , نصبر على بلائه , ويوفينا أجور الصابرين” ..
إذن .. هو يتحدث بكل صراحة عما سيلاقيه , لا يماري ولا يخادع , ومع أن هذا الأمر – كما أشرت – كثيراً ما تحدَّث عنه الإمام (ع) مع أصحابه وفي مناسبات عديدة ومواضع جمة فإنه لم يكتفِ بذلك ؛ بل واجه أصحابه ليلة العاشر من المحرم مواجهة أكثر صراحة ، فلربما ما يزال في ذهن أحد منهم احتمال آخر غير ملاقاة الموت والشهادة , فجمعهم وقال :”يا قوم .. أعلم أنكم خرجتم معي بعلمكم أني أقدم على قوم بايعونا بألسنتهم وقلوبهم , وقد انعكس القلم واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله , والآن لم يكن لهم مقصد إلا قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حريمي بعد سلبهم , وأخشى أنكم ما تعلمون وتستحيون , والخداع عندنا أهل البيت محرم , فمن كره منكم ذلك فلينصرف, فالليل ستير, والسبيل غير خطير , والوقت ليس بهجير , ومن آسانا بنفسه كان في الجنان نجياً من غضب الرحمن …” .
وبعد هذا التصريح والمكاشفة نجد موقف الأنصار والأتباع يثلج الصدر وينم عن مدى تأثير التربية الجهادية والروحية التي استطاع الإمام الحسين (ع) أن يزرعها فيهم ، نعم نجدهم يشهرون سيوفهم من أغمادها ويتجمعون حوله مصرين على الجهاد والذب عن حرم رسول الله (ص) غير هيابين ولا وجلين ؛ فقد امتلأت نفوسهم رضاً بنصرة ابن بنت نبيهم والموت دونه ، فلمّا رآهم الإمام (ع) على هذا المجال حمد الله وأثنى عليه , ثم قلدهم وسام الشرف الأبدي والكرامة الخالدة بقوله : “إني لا أعلم أصحاباً أوفى من أصحابي …” .
ومع كل ذلك – أي مع تصريحهم بموقفهم واستيثاق الإمام (ع) منه – إلا أنه لم يترك فرصة إلا واهتبلها لتأكيد ضرورة الصبر في المواجهة والثبات في وجه العدوّ حتى النهاية , أي حتى بذل آخر قطرة دم ، وهكذا فعندما أصبح صباح اليوم العاشر من المحرم خطبهم عقب الصلاة قائلاً : “إن الله تعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم , فعليكم بالصبر والقتال …” ، ومن هنا يتأكد لدينا أن الإمام الحسين (ع) مع يقينه وعلمه بمقتله ومقتل من معه لم يهِن ولم يضعف ، وكان هو وأصحابه الميامين على أعلى درجات الاستعداد للتضحية والفداء في سبيل نصرة الدين القويم وإبقاء جذوته متقدة أبد الآبدين .
ويُعَدّ الانضباط التام مسألة جوهرية في أية مواجهة مسلحة , والانضباط بمفهومه هو الالتزام الصارم بتوجيهات القيادة وأوامرها , وبدونه فإن الإرباك والفوضى والانفلات ستسود في الطرف الذي لا يلتزم بمثل ذلك الانضباط المطلوب ، وهو ما يؤدي إلى الانكسار والفشل ، ولكن الانضباط لا يسود عادة وتكون له الأولوية اعتباطاً ؛ بل إن ذلك يتحقق عبر ممارسات جادة واختبارات معقدة ومن خلال النمو المتزايد للشعور العالي بالمسؤولية والإيمان المطلق بالقيادة ، وهنا نجد حالة الانضباط بالصورة التي ذكرناها قائمة أثناء المواجهة المسلحة في الجبهة التي يقودها الإمام الحسين (ع) مع تأثير فرص الانفلات في الجبهة المعادية ، فنحن نجد الأنصار ينقادون لتوجيهات الإمام (ع) وأوامره ويخضعون لها بكل إخلاص ونكران ذات على الرغم من وجود حالة الغليان والحماس وعشق الشهادة ، وهذه تُعَدّ من العوامل التي ربما تقود الإنسان إلى التصرف والاندفاع بعيداً عن التوجيهات الصارمة للقيادة , ولعل الأمثلة على ذلك في واقعة الطف كثيرة .
ولكن ربما يثور هنا سؤال هو : كيف يمكن أن نقوم موقف أحد الأنصار الأبطال – عابس الشاكري – عندما ينزل إلى ساحة المعركة فيرمي سيفه وينزع درعه ثم يواجه القوم الأعداء – على كثرة عددهم – أعزل إلا من صلابة الإيمان وقوة الأعصاب ورباطة الجأش ؟!
إن هذه الصورة في الوقت الذي تؤشر إلى حالة العشق للشهادة وحالة الذوبان في الإمام الحسين (ع) هي تجسيد للإقدام البطولي والاستماتة في سبيل الحق والتي أظهرها هذا البطل , إنها الصورة التي أرعبت العدو وأربكته وأظهرت مدى أحقية الإمام (ع) في موقفه الذي اتخذه , كما أنها سجلت صفحة نادرة في سجل ملحمة كربلاء الخالدة يترسمها الأبطال والمجاهدون على مدى التاريخ .
إن مثل هذه الصور الرائعة لا نجدها في معسكر الأعداء في الجبهة المعادية للحق والإسلام , بل لا تستطيع جبهات الباطل أن تقدم صورة واحدة من هذا القبيل , وليس بإمكانها أن تفرز مثل هذه الصور الخالدة من البطولة النادرة والشجاعة الفذة ، بينما نستطيع العثور على عشرات بل مئات الصور من مثل جبهة صراع الإسلام مع قوى الكفر والضلال على طول التاريخ , ولا ينبغي أن نستغرب ذلك ؛ لأن الإنسان بطبعه لا تهون عليه حياته ودمه إلا عندما يدرك أن الغاية عظيمة والهدف هو لله والثواب والعوض أعظم ، وهذا لا يتوافر إلا في جبهة الحق والدين , وإلا تحت حماة الدين .
* دور الإمام الخميني التربوي للأمة :
يُعَدّ الدور التربوي هو الأبرز في فكر الإمام الخميني ، وذلك للرقي بالأمة والخروج بها من الظلمات إلى النور ، ألا وهو تزكية النفس , ذلك ما أكدته الأستاذة زينب إبراهيم في دراستها عن الأسس التربوية لدى الإمام الخميني في مجلة المنطلق ، فلقد كان حفظ الإسلام همّاً يسيطر على حياة الإمام ، وقد قدّم في سبيل هذا الهدف عمره الشريف الذي أمضاه ما بين اضطهاد وتعذيب وسجن ونفي من بلد إلى آخر وحرب وأذى في الأمة والنفس والأبناء الجسمانيين منهم والروحانيين ، ولسان حاله يقول ما قاله سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين (ع) : “هون ما نزل بي أنه بعين الله” ، والإمام أكد في وصيته هذا الأمر بصريح العبارة “فحفظ الإسلام هو أهم جميع الواجبات ، ولأجله جاهد وضحى غاية التضحية الأنبياء العظام من آدم (ع) إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يصدهم عن أداء هذه الفريضة الكبرى أي مانع ، وتابع الأنبياء على ذلك الصحابة المؤمنون وأئمة الإسلام عليهم صلوات الله أجمعين ؛ سعوا بكامل الجهد ، حتى التضحية بالنفس من أجل القيام بهذا الواجب .
لقد أيقن الإمام أن الإسلام دين التهذيب ، والقرآن كتاب تربية الإنسان ، واتباع تعاليمه والتخلق بأخلاقه يعني الوصول بالإنسان إلى منتهى كماله ، وأن الأنبياء الكرام (ع) إنما جاءوا ليهدوا الناس إلى الطريق الذي يصل إلى ذلك الكمال ، وليتمموا مكارم الأخلاق ، وليزكوا النفس ، وقد ورد في محكم الكتاب المبين {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم} ، وجاء في الحديث الشريف : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ، كما وأيقن الإمام (طيب الله ثراه) أن تربية النفوس وتزكيتها أهم طريق لحفظ الإسلام ؛ إذ أن التزكية تعني تحول الإنسان إلى قرآن مشخص ، وبها يحفظ الإسلام ، ليس في الكتب والمقالات بل في النفوس والقلوب ، ولولا هذا الأمر لما عدّه الشارع هدف الأنبياء .
لقد انكشف هذا السر للإمام (رض) فقال: “مِن أهم وأسمى العلوم التي يجب تعميم تدريسها ودراستها هي العلوم المعنوية الإسلامية : كعلم الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله” ، ولَمّا تكشف لسماحته الأمر جعله قبلة يمم الوجه شطرها ، فعرج إلى أعلى مراتب العرفان ، كما وجه الأمة نحوها .
وقد جاء في الكتاب الكريم {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ، فتغيير ما بالنفس وتهذيبها شرط لازم لتغير حال الأمة ورقيها ، لذا نجد أنه ما من نداء أو خطاب وجهه الإمام للأمة إلا وفيه كلام أو إشارة إلى التزكية وضرورة التربية وتعلم علم الأخلاق ؛ فهذا الإمام يقول : “التقوى .. التقوى .. تزكية النفس .. الجهاد مع النفس .. زكوا أنفسكم جميعاً .. تعلموا من التعاليم العالية للإسلام .. الإسلام يصنع الإنسان ، والأجانب والقوى العظمى يخشون الإنسان ، ويقاومون الإسلام لأنه مدرسة لتربية الإنسان” .
الإمام (رض) بمجاهداته الروحية ورياضاته النفسية وإخلاصه وصفائه وعبوديته لله سبحانه وتعالى أصبح “قطباً” ومعلماً ، والأمة التي وثقت به تحولت إلى “مريد” أسلمت له القيادة لتسلك بفضل تعاليمه وإرشاداته الطريق المستقيم ، وكثيراً ما كان الإمام يردد أن من يجعل الإسلام هدفاً لحياته ينبغي له أن يقاوم الانحرافات والأخلاق السيئة والذميمة وإبدالها بأخلاق حسنة وتحويل الانحرافات إلى استقامة .
ولكن ما هي نقطة البدء والانطلاق ؟ ما هي الجهة التي يجب التوجه إليها أوّلاً ؟
يجيب الإمام على السؤال المطروح بقوله : “على الإنسان أن يبدأ من نفسه فيلاحظ انحرافاته الشخصية ، لا شك أن كل إنسان يرى في نفسه عيوباً ، وقليل من لا يرى عيب نفسه ، وهذا أحد العيوب ، على الإنسان أن يتربى وأن تكون تربيته بتزكية نفسه ، على الإنسان أن يبدأ من نفسه ثم من عائلته ، فابدؤوا من عوائلكم لتصلوا إلى الذين في الخارج” .
إذن .. نقطة البدء والجهة الأولى التي يجب أن نتجه لتهذيبها وتزكيتها – كما قال مربي العصر – هي الذات ؛ إن إصلاح الذات مقدمة ضرورية لإصلاح ما في الخارج ، والإمام (قده) تابع حركة المنهج هذه في توجهه إلى موضوعات التربية ، فبدأ بشخصه الكريم ونفسه فهذبها وأحسن تهذيبها وتزكيتها ، ورأى أن من يريد أن يتصدى لأمر فلا بد أن تكون أقواله وأفعاله وتقريراته موافقةً لما يدعو إليه ، وإلا فقد مصداقيته كما أوضح (قده) : “فعندما أدعوكم أنا إلى ترك عمل ما أو القيام بعمل ما لا يكون لهذا العمل أي تأثير إذا كنت أنا فاسداً” ، ثم إنه يستحيل على إنسان غير مربٍّ أن يتصدى لتربية الآخرين وتزكيتهم ؛ إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه .
إذن .. فموضوع التربية الأول هو الذات كما مر ، يليه تربية العائلة ، وقد استشهد الإمام على ضرورة هذا النهج في التوجه بقوله : “عندما بعث بالرسالة (النبي صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ التغيير من بيته ، فدعا السيدة خديجة ، وهي قبلت بذلك ، والإمام علي (ع) – والذي كان طفلاً يومذاك – قبل الدعوة أيضاً ، ثم جمع الرسول أقرباءه ودعاهم للرسالة” حسب الأمر الإلهي ، والإمام تابع الأمر الإلهي الموجه إلى جده رسول الله (ص) وتوجه إلى عائلته مربياً ومهذباً ، فسقاهم حب الإسلام وبذر فيهم بذور الأخلاق الإسلامية ، لذا نرى أنهم نساءً ورجالاً قدَّموا الأنفس والأموال وعانوا النفي والتعذيب من أجل الإسلام والأمة .
ثم إن الإمام – وحتى آخِر أيام حياته – كان يؤكد ويشدد النصح لعائلته للتمسك بالأخلاق الإسلامية العالية ، وبهذا الخصوص ذكرت السيدة مصطفوي – ابنة الإمام – للوفود النسائية التي شاركت في أربعين الإمام – أعلى الله مقامه – أن الإمام جمع عائلته قبل يومين من وفاته وقال لهم : “إن الحياة طريق صعب ، فأرجو ألاّ تقعوا بمعصية .. أوصيكم بعدم الاستغابة وعدم السخرية ، ولا تحتقروا أحداً .. لا تحزنوا من بعدي ، واصبروا على ذلك” .
ثم إنني سمعت زوجة الإمام (قده) عندما زرنا بيت الإمام في الذكرى العاشرة لانتصار الثورة الإسلامية في إيران تقول: “إن الإمام يوصينا دائماً بالمحافظة على الصلاة” ، حينها تعجبت للأمر ، وقلت إن محافظة أهل بيت الإمام على الصلاة أمر مؤكد ، فلماذا هذه التوصية ؟! لعل في الأمر خطأ في الترجمة ، إلا أنني أدركت فيما بعد أن وصية الإمام هي هذه وليس من خطأ في الترجمة ، فالصلاة كما يراها الإمام معراج المؤمن ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وانطلاقاً من هذه الأهمية للصلاة ودورها في حركة الإنسان باتجاه خالقه وتربيته أوصى بها الإمام (رض) .
إذن مما مر سابقاً نلاحظ أن الوصية الأخيرة التي أوصى بها الإمام عائلته هي وصية أخلاقية ، الأمر الذي يؤكد ما ذهبنا إليه من أن تربية النفس هي الطريق الأقوم لحفظ الإسلام .
أمّا الجهة أو الموضوع الثالث للتربية والتزكية الذي توجه إليه الإمام (رض) كان الأمة الإسلامية بشكل عام والشعب الإيراني بشكل خاص ، وركز على ضرورة تربية وتزكية نفوس أولئك الذين يتولون قيادة الأمة ؛ لأن خطر انحرافهم أشد وأعظم من خطر انحراف الأشخاص العاديين ، وصلاح هؤلاء وتربيتهم تعمّ بركتها الجميع .
بعدما عرفنا التدرج في الجهاد المتوجه إليها في عملية التربية يطالعنا السؤال التالي : ما هي الخطوات العملية التي اتبعها الإمام (رض) في مسيرة التهذيب هذه بحيث استطاع أن ينقل أمة بمعظمها منتشرة في كل بقاع الأرض من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام ومن حضيض المادة إلى قدس الروح والمعنى ؟
طبعاً لا يمكن للإنسان أن يصل إلى أي هدف في حياته بشكل عشوائي ودون برمجة وتخطيط ، وليس للسائر في ظلمة الليل أن يهتدي إلى طريقه دون ضوء ولا يتعثر ، كما ويستحيل على الإنسان أن يصبح طبيباً دون أن يتعلّم فن الطب ويتمرس به .. إن كل علم بحاجة إلى معلم مِن أخس العلوم إلى أشرفها ، فكيف بعلم أرسلت الرسل من أجله أي علم الأخلاق ؟!
قال الإمام : “إن كل علم في الدنيا وصنعته لا بدّ لهما من أستاذ وممارسة ، وإن الإنسان الذي يسير على غير هدى ودون تخطيط لا يمكن أن يصبح متخصصاً في أي مجال .. كيف نؤمن بهذا ونؤمن في نفس الوقت بأن علم الأخلاق – الذي هو هدف إرسال الأنبياء والذي هو من أدق العلوم – ليس بحاجة إلى التعلم والتعليم ؟! ” .
وبناءً على ما تقدم رأى الإمام أنه لا بدّ مِن وضع مناهج لدراسة هذا العلم وإقامة جلسات الوعظ والإرشاد وتدريس علم الأخلاق بحيث تشمل هذه الدروس كل فئات الشعب ويتحول المجتمع والأمة بل والعالم إلى جماعتين : جماعة الأساتذة والمعلمين وجماعة الطلبة والمتعلمين ، ومن أجل إتمام هذا الغرض دعا العلماء وطلبة العلوم الدينية ومدرسي التربية الإسلامية والمعلمين وكل من له علاقة بالتربية والتعليم لتزكية نفوسهم كمقدمة لتزكية وتربية الآخرين ، كما ودعا الإمام (رض) كل من يريد تربية نفسه وتزكيتها لوضع برنامج لهذه الغاية ومتابعة دروس الأخلاق الشفوية منها والمكتوبة ، كما وأكد على ضرورة الاستفادة من سير الأنبياء العظام والأئمة الأطهار والعلماء العاملين الأتقياء ؛ فإن نهجهم وسيرتهم بحد ذاتهما مدرسة متكاملة في الأخلاق وجهاد النفس والخلوص في العبودية لله .
وبعد أن وضع الإمام الخطوط العامة لحركة دراسة علم الأخلاق شرع بالتصدي لعملية التعليم ، متخذاً لذلك أساليب متعددة ، فسيرة الإمام – مثلاً – وسيلة تربوية قائمة بحد ذاتها ، إلاّ أن البحث لا يتسع للكلام عنها ، وسوف نتناول في هذه الدراسة أسلوباً واحداً من أساليب الإمام التعليمية هو أسلوب الوعظ والإرشاد ، وذلك من خلال الخطب التي كان يتوجه بها إلى الأمة في المناسبات المختلفة وبعض المحاضرات التي ألقاها على طلاب الحوزة العلمية في منفاه في النجف الأشرف ..
فكيف خاطب الإمام الأمة ؟ وماذا علّمها ؟
سبقت الإشارة إلى أن الإمام شدّد على ضرورة تعلّم علم الأخلاق وتهذيب النفس ، إلاّ أن درسه الأول كان تحذيراً للمتعلمين والخاضعين لعملية التربية والتزكية من إبقاء هذه المعلومات في الذهن وتحويلها خزيناً للأدمغة ؛ إذ لا بدّ أن تكون القلوب أوعية العلم ، أي لا بدّ أن يتحول هذا العلم والخزين إلى سلوك وعمل وممارسة تظهر في حياة الفرد اليومية ؛ لأن العلم بدون عمل هلاك للإنسان ، بل قد يتحول العلم حجاباً بين الفرد وربه وحائلاً دون الوصول إلى طريق الهداية ، وذلك عندما يصيبه الغرور والعجب بما يملكه من علم ، أو يستخدم هذا العلم في غير مرضاة الله سبحانه وتعالى ، ثم إنه ليس العلم وحده الذي قد يكون حجاباً بين الفرد وخالقه وسدّاً حاجزاً يحول بينه وبين الهداية وبلوغ مرتبة الإنسانية العالية التي أرادها له الباري عزّ وجلّ ؛ فقد يكون أي شيء يصل إليه الإنسان أو يحوزه مانعاً من تحقيق الهدف إلاّ من تهذب بالتهذب الإسلامي وتربى بتربية دين التوحيد ، وبهذا الصدد يلفت الإمام(رض) إلى أنه “عندما يحصل الإنسان على شيء يحصل لديه الغرور ويرى نفسه عظيماً ، والإسلام جاء ليسحق هذا الغرور ، وما دام الإنسان أنانيّاً لا يتمكن من الوصول إلى طريق الهداية ، ففي البداية يجب أن يسحق هذه الشهوات وهواه النفسي” ، وتابع قائلاً : “إن الحروب التي حدثت بين الأنبياء وغيرهم في الدنيا ليست سوى لأنهم كانوا يريدون الحد من جماح الناس وأن يسحقوا هذه الأنانيات” .
الإمام من خلال تعاليمه للأمة شخص بيَّن ما يمكن أن يلوّث النفس ويكدرها ويحرفها عن فطرتها الأصلية ، وذكرها مراراً وتكراراً ، كما وبيَّن نتائجها الوخيمة على مستوى الفرد والأمة في الدنيا والآخرة ، ومن هذه الكدورات ذكر الإمام(رض) : الغرور ، الكبر ، العجب ، النميمة ، الغيبة ، حب الذات والدنيا ، الانقياد للشهوات ، وغيرها من الأمور .
وقد عدّ الإمام (رض) هذه الأمور من الأمراض الروحية الخطيرة التي تقضي على الإنسان وتحوِّل الناس إلى وحوش كاسرة وبهائم ، وتؤدي بالتالي إلى الخسران المبين ، ففي حديثه للمربين يقول : “حذروهم (الطلاب) من الصفات الدنيئة التي توجب سقوط الإنسان في الهاوية : كحب الجاه والمال والمقام ، ومن كل العوائق التي تمنع التقدم البشري ، وعلموهم أن الإنسان ما دام منكبّاً على شهوات الطبيعة فإنه ليس إنساناً ، وإن هؤلاء الذين همّهم المكاسب الدنيوية والعيش الهنيء إنما هم كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، وأخرجوهم من عبودية غير الله إلى عبودية الله” .
إن هؤلاء الذين همّهم الأمور الدنيوية الخسيسة والذين أعمالهم لا تنسجم مع الروح – وإنما جميعها في خدمة الجسد وتأمين ملذاته – هم كما يقول الإمام : مصداق قوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر} ، أمّا المؤمنون الذين عملوا على تهذيب أنفسهم وتأديبها وتكون أعمالهم منسجمة مع الروح ومع ما أمر به المولى وخالصة لوجهه فهم المستثنون في الآية {إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} .
لقد عَدّ الإمام الذنوب أمراضاً روحية خطيرة ، بل هي عنده من أخطر الأمراض التي يصاب بها الإنسان ، والمشكلة مع هذه الأمراض أن المصاب بها لا يلتفت إليها ولا يسعى لمداواتها ومعالجتها ، في الوقت الذي يستنفر عدداً كبيراً من الأطباء إذا ما توهم إصابته بمرض جسدي على حد تعبير الإمام ، ويردّ هذا المعلم الجليل السبب في عدم المسارعة لعلاج أمراض الروح إلى عدم الشعور بألم يصاحبها ، تماماً كما الأمراض الخبيثة ؛ إذ أنها عادةً غير مصحوبة بالألم ، وصاحبها لا يشعر بها إلاّ بعد فوات الأوان ، وكذلك الأمر بالنسبة لأمراض الروح ؛ فالإنسان لا يشعر بها إلاّ بعد انقضاء العمر ، عندها يدرك مريض الروح معنى قوله تعالى {ووُضِع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا} .
إن الإمام الذي امتلأ قلبه حبّاً لله يذكّر الأمة بلقاء الله ويحذرها مغبة الأعمال السيئة والذنوب ، بقوله : “أنتم إذا لم تصلحوا أنفسكم – لا سمح الله – وخرجتم من الدنيا بقلوب سوداء ، وعيون وآذان وألسنة ملوثة بالذنوب ، فكيف ستقابلون الله ؟! هذه الأمانات الإلهية التي استودعكم الله إياها بمنتهى الطهارة والبراءة كيف ستردّونها بمنتهى القذارة والرذالة ؟! هذه العين ، وهذه الأذن اللتان هما في اختياركم ، وهذه اليد وهذا اللسان هما في سلطتكم ، هذه الأعضاء والجوارح التي تعيشون بها كلها أمانات الله العزيز المتعال ، وقد أعطاكم إياها بتمام السلامة والطهارة ، فإذا ابتليت بالمعاصي فإنها تتلوث وتتقذر ، وآنذاك عندما تريدون إعادة هذه الأمانة قد تُسألون : أهكذا تُحفظ الأمانة ؟! هل سلمناكم هذه الأمانات هكذا ؟! القلب ، العين ، وسائر الأعضاء والجوارح التي جعلناها في اختياركم ، هل كانت هكذا قذرة وملوثة ؟! بماذا ستجيبون على هذه الأسئلة ؟! وكيف ستواجهون الله الذي خنتم أماناته بهذا الوجه من الخيانة ؟! ” .
ويذهب الإمام إلى أن البشر إن كانوا غافلين عن أمراض الروح لأنها غير مصحوبة بالألم – بل غالباً ما تكون مصحوبة باللذة – فهل هم غافلون عن تحذيرات وتنبيهات الله – سبحانه وتعالى – والأنبياء والأئمة (ع) والعلماء الذين أكثروا من الكلام عن هذه الذنوب وعن الهاوية التي تجرّ إليها ؟!
إن الله – سبحانه وتعالى – لم يترك خلقه يتخبط في معرفة الطريق ، وتمييز الحق من الباطل ، بل أنار لهم الطريق فأنزل لهم الكتب السماوية بواسطة الأنبياء ، إضافة إلى العديد من المنبهات والموقظات ، إلاّ أن الإنسان – هذا الجاهل الظالم ، صاحب النفس الفرعونية – ما رأى إلاّ نفسه فأخلد إلى الأرض واتبع هواه ، وغرته الدنيا بغرورها فانغمس بملذاتها الفانية البائدة ، وأعرض عن ربه ونسي لقاءه واليوم الآخِر ، معزياً النفس بما يلوكه لسانه من ألفاظ التوبة ، غير أن : “التوبة لا تتحقق بلفظ أتوب إلى الله ، بل إنها تتوقف على الندم والعزم على ترك الذنب” .
لا يمكن للنفس – برأي الإمام – أن تتزكى وتقبل نور الهداية ما دام الإنسان غارقاً في عبوديته لذاته والزعامة والمال والجاه … إلخ ، لا يمكن أن يصبح الفرد إنساناً ما لم يخرج من هذه العبوديات إلى عبودية الله ويكون حبه ظل محبة الله وبغضه في الله ، وإلاّ أدى به غرقه في غير الله وحبه وعبوديته له إلى أسفل سافلين .
ويشرح الإمام(رض) الأمر بقوله : “إذا لم يهذب (الإنسان) نفسه وإذا لم يعرض عن الدنيا ويخرجها من قلبه فيُخشى أن يترك الدنيا وقلبه مملوء بالحقد على الله وعلى أوليائه” .
جاء في الحديث أن الإنسان يولد على الفطرة والصراط المستقيم والتوحيد والإسلام ، والإمام يشترط نموّ هذه الفطرة وتفتحها بالتهذيب وإلاّ ستكون عرضة للفساد ، فقلب الإنسان يشبهه الإمام بالمرآة ، وهو صاف ومضيء ، ولكنه يتكدر ويتغبش نتيجة التكالب على الدنيا وكثرة المعاصي ، والمشكلة أن الإنسان يستصغر المعاصي ولا يلتفت إلى من يعصي : “لا تستصغروا هذه الذنوب البسيطة ؛ فإن عاقبتها خطيرة ؛ لأن الإنسان الذي يمارس الذنوب تكون عاقبته عند الموت أن يكذب بالله وينكر آياته ؛ قال تعالى {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون} ، وهذه النتيجة السيئة لا تحصل دفعة واحدة بل بالتدريج .. نظرة محرمة من هنا ، وكلمة غيبة من هناك ، وإهانة لإنسان مسلم من هنالك .. هذه المعاصي كلها تغرس في قلب الإنسان فتنمو وتسيطر عليه وتحوله إلى قلب أسود مظلم ، وتَحُول بينه وبين معرفة الله إلى أن تكون النتيجة أن ينكر الحقائق الإيمانية ويكذب بآيات الله تعالى” .
ويتساءل الإمام : لماذا ترتكبون هذه الذنوب ؟! لماذا النميمة والغيبة والحقد والكراهية والحسد والخلافات خصوصاً في مجتمعات المسلمين ؟!
إن السبب الأول لهذه الذنوب جميعاً هو التعلق بالدنيا ، وهي مظاهر لها ؛ لأن الأمور الأخروية “لا صراع عليها ولا اختلاف ، وأهل الآخرة المترفعون عن سفاسف الدنيا يعيشون مع بعضهم بمحبة وصفاء ، قلوبهم مملوءة بحب الله وعبادة الله ، فمحبة الله سبب طبيعي لحب عباد الله المؤمنين ، ومحبة عباد الله ظل محبة الله سبحانه” .
ويذهب الإمام إلى أن الذنوب والأعمال القبيحة لا تؤجج نيران الدنيا فقط ؛ بل هي نفسها التي تؤجج نار جهنم ، وإن حركة جهنم مشروطة بعمل الإنسان نفسه ، فإذا لم يفعل الإنسان ما يحرك نار جهنم ويؤججها يمكنه اجتياز الصراط دون أن تتلقفه النار .
أمّا السبب الثاني لهذه الذنوب : فهو عدم احتمال وجود الآخرة – حسب رأي الإمام – وبطلان الثواب والعقاب ، وعدم الإيمان العملي بوجود الله ؛ لأن المؤمن الموقن بوجود الله ووجود جهنم لا يتجرأ على القيام بأي عمل يسخط الله ويغضبه ؛ لأنه يشعر عند أي حركة يقوم بها أنه بمحضر الله وعلى مرأى منه ، وهذا مانع له من ارتكاب أي عمل شنيع ، أمّا نحن فنتجرأ على الله ونتصرف في محضره بكل وقاحة ؛ فنغتاب المؤمنين ونظلم العباد ونستعمل كل الأمانات التي استودعها الله عندنا في أذية النفس والآخرين ، وبهذا الصدد يقول الإمام(قده) : “إن الإنسان ليمتنع عن ارتكاب الذنب لوجود طفل مميز ، إنه يمتنع عن كشف عورته أمامه ، فكيف يا ترى يكشف عوراته بحضور الله سبحانه دون أيّ تورع أو خجل ؟! السبب في ذلك هو الإيمان بوجود الطفل ، ولذلك يجتنب الإنسان الذنب أمامه ، وعدم الإيمان بوجود الله وحضوره ؛ لأنه لو كان مؤمناً بحضور الله لاجتنب المعاصي وتورع عن ارتكاب المحرمات” .
ثم يذهب الإمام أبعد من ذلك فيقول : إن الإنسان الذي يرتكب المعاصي والذنوب ليس فقط غير مؤمن ومتيقن من وجود الله وصحة الإخبارات التي وردت في القرآن الكريم عن وعده ووعيده ؛ بل أكثر من ذلك هذا الإنسان لا يحتمل وجوده ، وإلاّ لو احتمل لقاء ربه لتفكر في عمله وراقب أعماله واجتنب المعاصي كما يجتنب المرور في طريق يحتمل الخطر على حياته فيه .. قال الإمام بهذا الشأن : “إنكم لو احتملتم أن في طريق تريدون قطعه حيواناً مفترساً يمكن أن يهجم عليكم أو قاطع طريق يمكن أن يعترض طريقكم سوف تجتنبون ذلك الطريق حتماً ، فهل من الممكن أن يحتمل إنسان وجود جهنم والخلود في نارها بكل صفاتها المذكورة في القرآن الكريم ومع ذلك يصدر منه ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ؟! هل من الممكن أن تصدر المعصية من شخص معتقد بحضور الله ومراقبته للعباد ؟! ” .
لذا علينا جميعاً أن ننتبه ونتيقظ ، ونخرج من جميع العبوديات إلى عبودية الله ، وننبذ الأعمال السيئة ، ونسارع في محاسبة النفس ، ونعمل العمل الصالح قبل فوات الأوان وحضور أعمالنا أمامنا ، وإلاّ سنكون من القائلين كما جاء في القرآن الكريم{رب ارجعونِ * لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت)} ، فيأتي جواب الباري {كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثون} .