
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله سبحانه “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” (البقرة 215) “يسألونك” يا محمد “ماذا ينفقون” أي الذي ينفقونه والسائل عمرو بن الجموح وكان شيخاً ذا مال فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما ينفق وعلى من ينفق، “قل” لهم “ما أنفقتم من خير” بيان لما شامل للقليل والكثير وفيه بيان المنفق الذي هو أحد شقي السؤال وأجاب عن المصرف الذي هو الشق الآخر بقوله: “فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل” أي هم أولى به “وما تفعلوا من خير” إنفاق أو غيره، “فإن الله به عليم” فمجاز عليه. قوله تبارك وتعالى “وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ” (البقرة 219) “يسألونك عن الخمر والميسر” القمار ما حكمهما “قل” لهم “فيهما” أي في تعاطيهما “إثم كبير” عظيم وفي قراءة بالمثلثة لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، “ومنافع للناس” باللذة والفرح في الخمر وإصابة المال بلا كد في الميسر، “وإثمهما” أي ما ينشأ عنهما من المفاسد “أكبر” أعظم “من نفعهما”. ولما نزلت شربها قوم وامتنع عنها آخرون إلى أن حرمتها آية المائدة “ويسألونك ماذا ينفقون” أي ما قدره “قل” أنفقوا “العفو” أي الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه وتضيعوا أنفسكم وفي قراءة بالرفع بتقدير هو “كذلك” أي كما بين لكم ما ذكر “يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون”.
جاء في كتاب مصباح المنهاج: الإجتهاد و التقليد للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم: بالنصوص الكثيرة الظاهرة، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة عليهم السلام وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع في ما نحن فيه، كصحيح محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليهم السلام قال: (إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النحل 43) إنهم اليهود والنصارى. قال: إذا يدعوكم إلى دينهم. قال: قال بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون) ونحوه غيره. وقد تضمن بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله هو الذكر، والأئمة عليهم السلام أهله، فلابد من رفع اليد عن قرينة السياق بذلك. ودعوى: أن ذلك من التفسير بالباطن الذي لا يمنع من حجية الظهور. مدفوعة: بأن التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه، كما تضمنته النصوص المذكورة مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن محل إشكال، ولعله لا يناسب مساق النصوص المذكورة. ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه، فلا ينافي عمومه لغيره، وقد ورد عنهم عليهم السلام: (أنه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر). وجه الاندفاع: أن ظاهر النصوص المذكورة ليس محض تطبيق أهل الذكر عليهم عليهم السلام، ولا نزولها فيهم عليهم السلام، بل تخصيصها بهم علهم السلام، كما تقدم، فتكون كسائر الآيات المختصة بهم، كآيات المودة، والولاية، والتطهير وغيرها، التي لا يلزم موتها، لأنهم عليهم السلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس، وحجة عليهم.
تكملة للحلقة السابقة جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله سبحانه “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” ﴿البقرة 215﴾ وكيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلا فكون الإنفاق من الخير والمال ظاهر، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهومن ألطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: “وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ” (البقرة 171) وقوله تعالى: “مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ” (آل عمران 117) وقوله تعالى: “مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ” (البقرة 261)، وقوله تعالى: “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (الشعراء 88-89)، وقوله تعالى: “قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا” (الفرقان 57)، وقوله تعالى: “سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ” (الصافات 159-160)، إلى غير ذلك من كرائم الآيات. قوله تعالى: “وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم”، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق وإن كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى: “لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ” (آل عمران 92)، وكما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ” (البقرة 267). وإيماء إلى أن الإنفاق ينبغي أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن والأذى كما قال تعالى: “ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى” (البقرة 262)، وقوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ” (البقرة 219).
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تبارك وتعالى “وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ” (البقرة 219) السؤال الثالث المذكور في الآية محلّ البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية “ويسألونك ماذا يُنفقون قل العفو”. ورد في تفسير «الدّر المنثور) في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم” عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق: ماذا يُنفقون؟ أيُنفقون كلّ أموالهم أم بعضها؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية “العفو”. ولكن ما المراد من (العفو) في الآية؟ (العفو) في الأصل كما يقول الرّاغب في المفردات بمعنى القصد إلى أخذ شيء، أوب معنى الشيء الّذي يُؤخذ بسهولة، وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّاً ويُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر. الحد الوسط بين شيئين. المقدار الإضافي لشيء. وأفضل جزء من الثروة. فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة، يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة، أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال. وهذا المعنى وارد أيضاً في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: العفو الوسط (أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط). وورد في تفسير علي بن إبراهيم (لا إقتار ولا إسراف). وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام (العفو ما فضل عن قوت السّنة). ويُحتمل أيضاً أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسّرين) هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق. ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الإعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّة عامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، وخاصّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الكامل لهذا المعنى، كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم. ولا يوجد تعارض بين هذه التفاسير، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية.